يبدو بايدن الذي أكمل قبل عدة أيام عامه الثاني والثمانين مصرا على لعب دور البطل الأمريكي الخارق كابتن أمريكا في الشهرين الأخيرين من إدارته للولايات المتحدة الأمريكية، ومتجاوزا وصفه بالبطة العرجاء في محاولة واضحة (لتنغيص) الأشهر الأولى من إداره خصمه العائد من جديد للبيت الأبيض دونالد ترامب. فعلى خطا ما فعله أيزنهاور وجيمي كارتر وجورج دبليو بوش في أيام إداراتهم الأخيرة يتحرك بايدن وبسرعة في عدة ملفات خارجية لوضع العراقيل أمام خطط ترامب (المعلنة) للتعامل مع قضايا أساسية وتوريطه فيها على شاكلة حرب وكيد الضرائر للإضرار بصورة الإدارة الجديدة والحزب الجمهوري في الأساس وتحقيق مكاسب حزبية.
ولا يمكن تفسير التغير في سياسة إدارة بايدن في الأسابيع الأخيرة وخصوصا بعد فوز الإدارة الجمهورية في ثالوث الرئاسة ومجلسى الشيوخ والنواب، وهو ما يعني عامين كاملين على الاقل من السيطرة المطلقة على القرار الأمريكي في السياسة الداخلية والخارجية على السواء إلا بأن بايدن ومن ورائه حزبه الديمقراطي يريد وضع العراقيل لقدرة ترامب والجمهوريين في فرض طرقهم لحل المشكلات، ليس فقط في المسألة الاوكرانية فقط بل في عدة قضايا وأماكن أخرى مثل الشرق الأوسط وإجبار اسرائيل ودول التماس على إعلان ايقاف الحرب فورا وقبل بداية حكم ترامب حتى لا تحسب هذه المسألة لصالح الجمهوريين وترامب، والموافقة الآن بصفقة أسلحة لإسرائيل بقيمة 680 مليون دولار تشمل أسلحة دقيقة وقنابل صغيرة ومتخصصة، بعد تهديد إدارة بايدن في أكتوبر الماضي بوقف المساعدات العسكرية لإسرائيل إذا لم تتخذ خطوات لتحسين الوضع الإنساني في غزة، وتحديدها مهلة 30 يوما لذلك.
أما في المسألة الأوكرانية فإن بايدن يريد توريط ترامب في ردود أفعال قاسية من جانب روسيا عندما رفع القيود التي كانت تمنع أوكرانيا من استخدام الأسلحة التي تزودها بها الولايات المتحدة لضرب عمق الأراضي الروسية وحتى قبل الضربة الروسية الأخيرة وتحريض الأوكران على ضرب روسيا بصواريخ أمريكية بعيدة المدى، وهو ما سترد عليه روسيا بقوة ويمكن أن تتعقد الأمور بالفعل، وخاصة أن ترامب قد أعلن بشكل صريح أنه سيسعى وفورا لإيقاف الحرب الروسية الأوكرانية التي أعتبر تكاليفها باهظة للجميع عبر علاقته المتميزة بالبلدين.
فبايدن الذي كان يتعامل مع الحالة الأوكرانية قبل عدة أشهر بالكثير من التحفظ في انتظار نجاح نائبته في الانتخابات واستمرار نهج إنهاك روسيا الذي يريده الأمريكان وحلفائها الأوربيين، حيث إن أمريكا وحلف الناتو لا يريدون في الحقيقة انتصارا لاوكرانيا بل يريدون في الحقيقة انهاك روسيا بإطالة أمد الحرب لأقصى وقت ممكن مستخدمين الطعم الأوكراني، كما فعلوا بالحرب الأفغانية مع الاتحاد السوفيتي قبل عقود، رافعين فلسفة الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة والتي تدعوا إلى أن اشعال الحروب هو حل لكل المشكلات.
غير أن حرب الضرائر بين بايدن وترامب في الشأن الأوكراني لن يوقف بطبيعة الحال مساعي ترامب الحثيثة في إيقاف الحرب وإجبار الأوكرانيون على الجلوس على مائدة التفاوض والقبول بالشروط التي من أثرها ستتوقف الحرب أو لن يتسع مداها، وكييف نفسها تعلم الآن أنها تستخدم في هذا الكيد بين إدارة الديمقراطيين والجمهوريين، ويدرك زيلينسكي أن إدارة المرحلة القادمة ستكون بيد ترامب القادم للبيت الابيض في 20 يناير القادم، لذلك فهو وإن استخدم تفويض بايدن في توجيه ضربات جديدة (ناجحة) ولكن محدودة باستخدام صواريخ "أتاكمس" الأمريكية لأهداف روسية ولكنها ليست في عمق الأراضي الروسية، كما أرادها الرئيس الأمريكي الذي توشك ولايته على الانتهاء لتطوير المعركة، ولكن استهدفت "منشآت" في منطقة كورسك الروسية الحدودية، ومطار كورسك-فوستوشني وكلها في المناطق المتنازع عليها وليس لعمق الأراضي الروسية، لأن ذلك سيعقد من وجهة نظر أوكرانيا مسألة الحل والتفاوض القادمة ولا محالة، وقد تدفع روسيا لرد أخر عنيف ستجد كييف نفسها ولوحدها أمامه، وهو ما جعل المسئولين الأوكرانيين يعلنوا بدأ التعامل مع إدارة ترامب لإنها ستكون الحاكم في هذه المسألة بعد أقل من شهرين في محاولة لإقناعه باستمرار المساعدات العسكرية الأمريكية لكييف والحفاظ على قوة أوكرانيا تحت شعار أنه يصب في مصلحة واشنطن ويخدم أهدافه السياسية، وأنه إذا كان يسعى لاستعادة أمجاد الولايات المتحدة فيجب عليه حماية أوكرانيا والدول الحليفة والدفاع عنها في مواجهة القوات الروسية، ومستخدمة لغة (البيزنس) التي يمتهنها ترامب بعرض الموارد الأوكرانية من المعادن المهمة مثل الليثيوم والتي يمكن استخدامها من جانب واشنطن في صناعات مثل الشرائح الرقيقة والسيارات الكهربائية وتنشيط الاقتصاد الأمريكي الذي جاء ترامب على أسنة الرماح المطالبة بدعمه.
كيد الضرائر والذي نقله بايدن إلى كواليس السياسة سيستمر كما يبدوا حتى ظهر العشرين من يناير القادم عندما يتسلم ترامب رسميا منه حكم الولايات المتحدة الأمريكية ومحملا بإرث يريد أن ينقضه لحكم الديمقراطيين ويسير الأمر على طريقته.