فى الأيام الأخيرة للرئيس الراحل مبارك، كانت القشة التى قصمت ظهر البعير، والتى أدت إلى تلك النهاية المأساوية لعهده، يمكن تلخيصها فى عبارة واحدة انتشرت فى كافة الأوساط السياسية عقب 25 يناير، مفادها "أن ساعة الرئيس ورموز حكمه كانت متأخرة عن ساعة الشارع بما يقارب "السبعة أيام" فكل قرار أتخذه رموز النظام الذين سقطوا، كان يمكن أن يُهدأ من ثورة المصريين.. فقط لو كان تم أتخاذه فى الوقت المناسب، والغريب هنا أن تقدير ذلك الوقت المناسب كان لا يتجاوز الأيام السبع.. بين بوصلة الرئيس وبوصلة ميدان التحرير.
ولأننا لازلنا نعيش فى إرث مبارك الضخم داخل أروقة السلطة والحكومة على أختلاف مؤسساتها، فلازال بشكل ما أو بأخر هذا المرض مستشري داخل معظم المؤسسات الرسمية فى الدولة المصرية، على الرغم من أن الرئيس السيسي منذ اللحظة الأولى لحكمه وكان واضحاً أنه يدرك حقيقة هذا المرض، فهو القائل عبارة "إن العدو الأول لهذه الأمة هو الوقت" وشاهدناه فى مناسبات كثيرة وهو يحارب على هذه الجبهة، وقد بدا ذلك جلياً فى العديد من المشروعات التى أطلقتها الدولة، وشاهدنا الرئيس دوما وهو يحاول أن يختصر الزمن فى كل مشروع.
ولكن مع مرور الوقت وقعت مؤسسات كثيرة داخل الدولة فى براثن مرض عدم سرعة اتخاذ القرار.. بل وفى بعض الأحيان عدم اتخاذ القرار من الأساس، وهو ما ترتب عليه إشكاليات سياسية ومجتمعية ضخمة، حتى وأن لم تؤثر بشكل مباشر فى كيان المنظومة الحاكمة، ولكنها قطعاً تحولت لتراكمات مازالت تصطف بجوار بعضها، وهو ما أدى إلى حالة من الاحتقان الشعبى والسياسي داخل الشارع المصري..
ولم تكن دعوة الرئيس لعمل حوار وطنى داخلي غير استشعار بحقيقة هذا الاحتقان ومحاولة خلخلته، ومع ذلك شاهدنا جميعاً فرق التوقيت بين دعوة الرئيس للحوار وبين توقيت بدايته.. بل وحتى مراحل الحوار.. وعلى الرغم من الاحترافية التى أدير بها الحوار.. إلا أن توقيت مخرجاته ووصولها للناس لا يزال يتسبب فى عدم جدواه على الأرض، وشعور الناس بحالة الحراك السياسي التي من أجلها يتم الحوار نفسه.
جاء تشكيل الحكومة الأخيرة هو الأخر ليلقي بظلال رمادية على لعبة الوقت فى اتخاذ القرار.. كل هذا يلقى بنفسه نحو سؤال هام طالما عجز الكثيرين عن إجابته.. وهو كيف يتم صناعة القرار السياسي فى مصر؟ بل كيف يتم صناعة أى قرار داخل أروقة السلطة فى مصر؟! وللإجابة على هذا السؤال..
أولا: يجب أن ندرك أن هناك مرض عضال مترسخ فى الوجدان المصري منذ أن قامت على هذه الأرض أول دولة فى التاريخ، ألا وهو "الروتين" فدولة الروتين فى مصر أزلية وقديمة بقدم مصر، وهى تحكم كافة مفاصل الدولة المصرية على نطاق دواوين الحكومة من أصغر وحدة محلية وانتهاء برأس الحكومة..
ثانيا: هناك نظرية فاسدة يمكن أعتبارها ضمن القوانين السرية التى تحكم المنظومة بكاملها، وهى نظرية أمنية بأمتياز تقوم على فكرة " أهل الثقة لا أهل الخبرة" تحت فرضية أن من يحكم فعلياً ليس غير التقارير الأمنية، وبلا شك مصر دولة عرفت النُظم الأمنية كأقدم دولة فى التاريخ، وهو ما نتج عنه فى النهاية أنهيارات ضخمة فى العدل الإجتماعي، والإقتصادي بل والسياسي، وخلق دوائر من جماعات المصالح الشخصية التى لا تعبئ غير بمصالحها فقط، كل هذا أدى إلى الحالة التى تعيشها مصر اليوم وما أنسحب عليها من احتقان عام داخل الشارع المصري..
ومن هذا المنطلق مثلا يمكننى أنا وغيرى تفهم كيف جاء وزير مشكوك فى شهاداته العلمية جميعها على رأس منظومة التعليم فى مصر، والحقيقة أيضاً أنا لست ممن يتوجسون خيفة من بقاء الوزير أو رحيلة، فمنصب الوزير في بلادنا ليس غير مجرد موظف يقوم بتنفيذ تعليمات، حتى ولو كان الوزير نفسه واسع النفوذ داخل أروقة السلطة، فالجميع يدور فى فلك النظام العتيق الذى يحكم الدولة المصرية.. ولكن يبقى رجل الشارع العادي لا يرى من المشهد غير أن رأس منظومة التعليم في مصر لا يمكن أن يُؤتمن على أبنائنا..
باختصار شديد هذه النظريات قد أثبت فشلها بشكل قطعى لا يحتمل التأويل، فرغم كل المبررات المنطقية التى نسوقها لتبرير الأزمات التى ألمت بنا.. إلا أننا ندرك جيداً أن الأمور على هذا النحو لن تستقيم، وأصبح من العبث أن نسير وفق هذه المنظومة التى تحكمنا من النظريات السرية غير المعلنة..
بل جلً ما أخشاه على وطني أن لا يصبر المصريين على اللحظة التى يأتي فيها قرار الإصلاح من الداخل، خاصة والعدو يتربص بنا على كامل حدودنا وداخل شوارعنا، ووسط أزمات حياتية أصبحت لا تطاق، ولا يمكن الصبر عليها، على الرغم أن الحلول بسيطة وسهلة ولا بديل لها، يمكن تلخيصها فى الحكمة الشعبية البسيطة " أعطى العيش لخبازة ولو سيأكل نصفه" بمنتهى الوضوح أن يأتي على رأس كل منظومة الرجل المناسب والأكفأ وأن تتنحى نظريات أهل الثقة جانباً ولو إلى حين..
لقد بات هذا الوطن فى مفترق طرق فى كل مناحى الحياة، ولم يعد من اللائق أن يجلس أى شخص على أي مقعد فقط لأنه عضوأً فى جماعة المصالح الخفية، لو كنَا حقاً نخاف على مستقبل هذا الوطن و- أكررها ثانية- والعدو يقف على الباب ينتظر اللحظة المناسبة للإنقضاض علينا، ونعرفه جميعاً حكام ومحكومين، الأمور هكذا لا تستقيم ولن تسير، فسفينة الوطن بها أعطال ضخمة ونحن في منتصف المحيط العالمي بكل أمواجه ولا سبيل لأن يتشاجر ركاب السفينة وسط الموج العاتى، فلا أحد فى مصر يملك رفاهية هذه اللحظة ولا يستطيع تحمل تكلفتها.
من أجل هذا والأن نحتاج لكثير من المخلصين داخل أروقة السلطة، وأعلم أنهم كُثر.. ليس لكى يتخذوا القرار المناسب فحسب، بل لكى يتخذوه فى الوقت المناسب أيضاً، ودعونا جميعاً نتعلم من أخطاء الماضي وأن تكون بوصلة وساعة وتوقيت الأمة المصرية واحداة.. فلدينا مصير واحد وأحوال عجيبة تنتظرنا.. ولا يسعني إلا القول ختاماً.. اللهم هب لنا من أمرنا رشداً ووفق ولاة أمرنا إلى ما فيه صالح البلاد والعباد.