في لحظات يملأها الدفء الأسري، ورائحة المشروب الساخن التي تعطرها أنفاس أمي وهي تتوسط جلستنا ممسكة بأحد الأكواب المفضلة لها وتعتبره ملك المشروبات "شاي بالنعناع"، تتصفح والدتي قنوات التلفاز متنقلة بين بعضها البعض حتى توقفت عند قناة إخبارية ما، فبدأت بمناقشتي فيم يدور حول العالم من أحداث سياسية وتطورات وتصعيدات تملأ المشهد الدولي، فاعتدلت في جلستي بعد أن كنت متوسدة ركبتيها، مبدية رأيي ونقدي لهذا وتأييدي لذاك.
وبعد أن وصلنا لمنتصف الحديث توقف ذهني لوهلة، متسائلة: "متى بدأت أعلم أشياءً كنت أجهلها؟! كيف الآن أستطيع فهم المصطلحات المتداولة؟! ولماذا أنا الذي أخبر أمي بأحدث التطورات والقرارات؟! ألم تكن هي التي كانت تخبرني؟!
أتذكر حينما كنت أشقيها بطرحي الكثير للأسئلة على شاكلة من هذا المسؤول؟ فيم يتحدث؟ وبلهجتي الطفولية كنت أقول: "هو الراجل دا مين؟" لتجيبني: "إنه فلان" لأسألها مجددا: "بيقول إيه؟" لتبسط لي كلامه المعقد بالنسبة لسني الصغيرة ثم أطرح سؤالا آخر: "وهو بيقول كدا ليه؟ وإحنا بنسمعه ليه"، لترد عليّ: "لازم تعرفي الدنيا حواليكي فيها إيه عشان ما تعيشيش كدا مش فاهمة حاجة، لازم تعرفي الأمور حواليكي ماشية إزاي".
بالفعل حينما كنت في الفصل كنت أتعجب كلما وجدت زملائي لا يعرفون المصطلحات الإخبارية التي اعتدت سماعها وفسرتها لي أمي، كنت أشعر أنني مميزة بالفعل، وذلك بفضلها.
والآن كبرت يا أمي ونشذت أفكاري بفضلك.. وفي عيد الأم هل أخبرك كيف كبرت؟! أنتِ بالفعل تعلمين فأنتِ خير شاهد على رحلة تعليمي في الحياة.. ولولا تعليمك وتعريفك لي لما كنت ما عليه الآن.. لا أقول تبدلت الأدوار وأصبحت أنا أعلم التحديثات الإخبارية.. بل أقول ما زلت أتعلم منك فأنا ناقلة للخبر وأنتِ المشاهد الرصين الذي يقيم أدائي.. أتمنى أن يليق أدائي بفكرك الراقي وذكائك الهادئ وعقلك الراجح.