قد سبق لنا من قبلُ الحديثُ عن قضيتي المفاصلة العقدية والتعايش السلمي... وبَيَّنَّا -وقتها- أن المفاصلةَ في الاعتقادِ ضرورةٌ عقليةٌ إذ يستحيل في العقل أن يجتمع الضدان أو النقيضان، فلا يمكن أن يُؤمِنَ الإنسانُ بما في القرآن، ثمَّ يُؤْمِنُ أيضاً بصحة ما يَرْفُضه القرآن! أعتقدُ أنَّ فاعلَ ذلكَ إمَّا مُصَابٌ بانفصامٍ إدراكيٍّ، أو أنَّه يَسْتَخِفُّ بعقولِ الناسِ وإدراكاتِهم! إلا أنَّه قد بدا لبعض القنواتِ أن تَلْفِتَ النظرَ وأن تجذبَ الاهتمام نحوها، بعدما باتت عاجزةً عن مسايرةِ ومواكبة السباق الإعلامي، فاهتدى عقلُ من لا عقلَ عنده فيها إلى افتعال معركة وهمية زاجِّينَ باسمنا فيها رجاءَ أن تعودَ الحركةُ لمياههم التي باتت راكدةً يُشْتَمُّ ريحُ العفنِ منها على بعدٍ قبلَ الاقتراب من حِياضِها الضَّحْلَةِ.
والله يعلمُ كمْ أنَّني يَعِفُّ لساني وتَعِزُّ نفسي عن أنْ أجاريَهم في فِعَالِهم كوني لا أجيدُ السباحةَ في الوحْلِ، متذكرًا قول الشاعرِ: ولولا أنَّ نفسي عليَّ عزيزةٌ لمكَّنْتُها من كلِّ نَذْلٍ تُسابِبُه المهم أنني سأغض الطرف عن ذلك لأشرع فيما جَرَّدّْتُ قلمي لأجلِه، إذ وجدتُ واجباً عليَّ أن أُبِيِّنَ للجمهورِ من جديدٍ فأقول: لا يُمكنني أن أُؤْمِنَ بنصٍّ يقول لي إنَّ هذا الشيءَ أبيضُ اللونِ، ثم أؤْمِنُ بنصٍّ آخرَ يقولُ لي إن نفسَ ذلكَ الشيءِ أيضاً أسودُ اللونِ! هذا جنونٌ مُطْبِقٌ ولسنا هنا لعرضِ العلمِ على من يفتقرونَ لأدنى مُسْكَةٍ من عَقْلٍ أو فهم.
إنَّ القرآن الكريمَ واضحٌ، والجنةُ ليست ملكَ أحدٍ، وإنما هي مِلْكٌ لمن خَلَقها، ومن خَلَقها جَعَلَ لسُكْناها شروطاً حَدَّدها هو بنفسِه، هي الإيمانُ بكل ما جاء عن الله وذلك يشمل "كلَّ" كتبِه التي آخرها القرآن، و "كلَّ" رسلهِ الذين آخرهم سيدنا محمدٌ النبيُّ العدنان، دونَ أن نُفرِّقَ بينَ أحدٍ من رسلِه، وبالتالي فليس من حقِّ أحدٍ أن يحكمَ بالجنةِ لمن حكمَ الله بخلوده في النار، كما أنَّه ليس من حَقِّ أحدٍ أن يَحْكُمَ بالنار ِ على من حكمَ الله له بالنجاةِ والجنَّةِ! وكلام الله في هذه القضية في القرآنِ قاطعٌ باتٌّ واضِحٌ، لا يحتمِلُ عوجاً ولا يحتاجُ لِعُنُقِهِ لَيَّاً.
وإنني لفي عَجَبٍ عُجابٍ من أولئك الذين يتصدرون للحكم على الأمورِ بخلافِ ما نصَّ الله عليه في القرآنِ مع كونهم يُؤمنونَ به!؟ ألا يكفيهم حكمُ القرآنِ؟ أم أنَّ في قلوبِهم من حُكْمِه غُصَّةً؟ أم طالَ عليهمُ الأمدُ ولم يَقْرَأوه فنسُوا قولَه تعالى: "لايأتيه الباطلُ من بينِ يديه ولا من خلفِه"!؟ من أعطاكم الحقَّ لتُخالفوا قانونَ القرآن!؟ هذه مضادةٌ صريحة لكلام الله! قلنا ألفَ مرَّةٍ: الكفر هو عدمُ الإيمانِ بالشيءِ، والذي سمى بعض الخلقِ كفاراً أو مسلمينَ هو الله وحدَه لا شريكَ له، ومن الطبيعي أنني كافرٌ بما يخالفُ ديني، وغيري كافرٌ بما في ديني لأنه يخالفُ دينَه.
وهذا الذي سردناه هو ما نعنيه بالمفاصلةِ العقدِيَّةِ، أي: اختلاف الإيمان وقوانينِه من مِلَّةٍ لأخرى.
إذن ما هو التعايش السلميُّ؟ وكيف نتعاطى الحياةَ مع من لا يُؤْمِنُ بما نؤمِنُ به؟ الذي بيننا وبين غير المسلمين -المسالمين لنا- سواءٌ في الوطن أو خارجه هو التعايشُ السلميُّ والتوافق على الاحترامِ والأدبِ، وِفْقَ القوانين والدساتير، وليس التوافقَ في الدين والاعتقادِ، لأنه ليس مطلوباً مني أن أُصَرِّحَ بصحةِ شيءٍ يُخالِفُ قرآني.
لقد وضعَ القرآنُ أساسَ التعايش السلميِّ وليس التفجيرَ أو التفخيخَ حينما قال: "وقولوا للناس حسناً" لكلِّ الناس وليس للمسلمِ فقط، ولاشكَّ أنَّ القتلَ والاعتداءَ على المسالمِ لنا يتنافى مع أمر القرآنِ لنا بالقول الحسنِ.
لقد وضع رسولُ اللهِ أساسَ التعايشُ السلميِّ في حديثِه الشريفِ في حَجَّةِ الوداعِ حين قال: "ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده" ولاشكَّ أنَّ التفخيخَ والتفجيرَ والترويعَ للمسالمينَ لنا ينافي صفة المسلمِ والمؤمنِ كما في هذا الحديث.
هكذا في صراحةٍ واضحةٍ يُؤَسِّسُ الإسلامُ للتعايشِ السلميِّ مع المسالمِ لنا، دونَ تذويبٍ لمربع العقائدِ أو تمييعٍ لِقَواطِعِ الاعتقادِ.
أفلا اتَّبَعتمُ القرآنَ والسنةَ؟ ستجدون فيهما كلَّ ما يحلُّ المشاكِلَ ويُزِيلُ التَّوتُّرَ ويُرْضي الجميعَ.
عَلِّموا الناسَ محاسنَ الإسلامِ مع المسلمين وغيرِ المسلمين المسالمين لنا، وانشروا تعليمَه الصادقَ بدلاً من أن تُعَلِّموهم ما يخالفُ القرآن.
بدلاً من أن يفقدَ الشبابُ الثقةَ في خطابِنا وتتلقفُهم يدُ الإرهابِ الغاشمِ الذي سيُقنِعُهم بأننا نحرِّفُ القرآنَ ولا نصلحُ قدوةً، أو يدُ الإلحاد الحارقِ للإيمانِ والقيمِ الرشيدةِ من القلوبِ والأفعالِ.
إنَّنا بحاجةٍ ماسَّةٍ لأن نتقبلَ فكرةَ اختلافِ العقائد جيداً، فعلينا أن نتعلمَ احترامَ العقائدِ والتعايشَ معها ولو رفضنا الاقتناعَ بها، بدلاً من محاولةِ تمييعها وتذويبِها.
فالكفرُ والإيمانُ شيءٌ، والتعايشُ في المجتمعِ شيءٌ آخرَ تماماً، والتعايشُ السلميُّ ليس مع المسلمِ وحدَه بل مع كلِّ من سالمنا وعاهدَنا وعاهدناه على ألا حربَ ولا قتالَ بيننا وبينه.
وأولى الناسِ بذلك هم أهل بلادنا وأبناءُ وطَنِنَا الذينَ لهم ذمةُ الله ورسولِه، دونَ مُجاملاتٍ على حسابِ العقائد.
اتقوا اللهَ في دينِه وفي قرآنِه ولا تشتروا به ثمناً قليلاً، وتذكروا أنكم غداً موقفون: "وقفوهم إنهم مسؤولون" وتذكروا أنَّ الكذبَ جزاؤُه سوادٌ: "ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مُسْوَدَّةٌ" وأعوذُ باللهِ من اسْوِدَادِ الوجهِ بينَ يديْه.
#الأزهر_قادم