“وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ”.. هذه الآية الكاشفة مرعبة.. تجعل الإنسان النقي يُبصِر إلى أي درجة يمكن أن يصل الغلُّ والنفسنة بالإنسان، فهنا وقعُ سياطِ الغلِّ والتشفِّي أشد على نفوس الكافرين من عذاب جهنم المهول.
ولكي نتخيل بشاعة الأمر؛ لنضَعْ أمامها صورة لنبي الله إبراهيم، الذي أُلقِيَ في نار الدنيا، ولم يعبأ، ورفض عرض جبريل عليه السلام، خليل الله هو نفسه ما إن يسمع صوت جهنم يوم القيامة، حتى يخرُّ صَعِقًا، ويقول: نفسي نفسي. فما بالكم بمن يتجرعون فيها العذاب الأليم، ويكون هذا دعاءهم! ألهذه الدرجة تكون نيران الغل أشد على نفوسهم من نار جهنم؟!
ولنتركْ أولئك الحقراء الأسفلين، ونعُدْ بالزمن إلى بدء خلق آدم، حيث كان هناك جنيٌّ وصل بعبادته إلى أعلى الدرجات، ولكن…
ما إن أصابه داء النفسنة، وأخذ الغل ينهش قلبه، حتى تَحوَّلَ إلى أحقر خلق الله، وصار إبليس اللعين الرجيم. وذكر بعض العلماء أن إبليس اسم عربي، على وزن “إفعيل”، وهو مشتق من الفعل “أبلس”، بمعنى أبعدَ من الخير، أو يئس من رحمة الله.
ولندع ذلك اليئيس البئيس في بركان غله الذي لا يخمد ولا يهمد؛ لنتابع أول جريمة يقترفها إنسان على سطح الأرض.. تلك الجريمة التي ذكرتها الملائكة بقولهم “ويسفك الدماء”.. وها هو ابن نبي الله آدم توصِّله النفسنة إلى تلك الكلمة الخطيرة، التي قالها مُباشِرةً “لَأَقْتُلَنَّكَ”.
ثم لننطلق عبر الزمان والمكان، ونهبط إلى أرض العراق؛ لنرى غلامًا أبهَى من القمر، وقد اجتمع حوله أحد عشر شابًّا هم إخوته، ونفزع ونحن نراهم يلقونه في البئر، وينزعون عنه قميصه، ويعودون إلى أبيهم، مسوقين بنيران الغل والنفسنة “إذ قالوا لَيوسفُ وأخوه أحبُّ إلى أبينا منَّا”.
والنفسنة آفة الإنسان في كل العصور، ومنفذ مضمون للكفر؛ فكل أعمال السحر والدجل دافِعُها الإنساني هو الغل، ذلك الغل الذي لا يردعه أن يكفر صاحبه.. حيث إن فَشَّ الغليل أهم عندهم من الله عز وجل.
فلا تعجب عندما تقرأ قول الله عز وجل، وهو يُطهِّر نفوس المؤمنين بقوله تعالى “وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ”. وتَأمَّلِ الفعلَ “نزعنا”، حيث إن الغل إذا وُجِدَ في النفس، تمكَّنَ منها، وسيطر عليها تمامًا، حتى إنه يحتاج إلى عملية جراحية، وهي البتر؛ لأن الجنة مكان الطهر المطلق، ولا مكان فيها لأي مرض نفسي.
لذا جاء دعاء المؤمنين الأتقياء الأنقياء في قوله تعالى “وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا”.
وعن جابر، رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تُعرَض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب فيتاب عليه، ويُرَدُّ أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا”.
ونختم بحديث عن صحابي لا يعرفه أحد، وكيف وصل بنقاء نفسه إلى تلك الدرجة التي تمناها كبار الصحابة. عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: كنا جلوسًا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة. فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال”. وكرر الرسول، صلى الله عليه وسلم، مقولته ثلاثة أيام.
وتابع أنس بن مالك: فلما قام النبي تبعه عبد الله بن عمرو، وبات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يرَه يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تَعارَّ تقلب على فراشه، ذكر الله عز وجل وكبر حتى صلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا. فلما مضت الليالي الثلاث، وكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلعت أنت المرات الثلاث، فأردت أن آوي إليك، فأنظر ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرَك عملتَ كبيرَ عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟ فقال: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغَتْ بك.