قد وردنا تساؤلٌ عن المراد بلفظ "الذمة" عند المسلمين، فأحببنا أن نُجيبَ بما يحضرنا في هذه القضيةِ.
الذمة هي نظام ومصطلح غير مسبوق في العالم تفرد الإسلام به ومعناه: أمانة الله لغير المسلمين بضمان حقوقهم، في وقتٍ لم يكن العالم يعرفُ فيه شيئاً عن الحقوق والحريات، حتى جاءت الأنظمة الحديثة فلم تأت بجديد تُضِيفُه، ذلك لأنَّ الإسلام كان أسبقَ في تقريرِ المواطنة التي ننادي بها اليوم.
قبل أن تظهر الدول الحديثة كان الإسلام هو أول من احتضن نصارى مصر وخلصهم من بطش الرومان، وحرر كنائس الأرثذوكس ومعابدَهم من يد إخوانهم في الدين الرومان -المسيحيينَ مثلهم- التي اغتصبوها من المصريين لكونهم على مذهب مسيحي آخر، وألغى الضرائب الباهظة التي فرضها الرومان على المصريين، وأطلق سراحَ المسجونينَ الدينيين الذين امتلأتْ بهم السجون الرومانيةُ، وأعاد سيدنا عمرو بن العاص البابا بنيامين لكرسي بابويته بعدما كان هارباً من بطش إخوانه الرومان الذين يدينون بنفس دينه ولكن بمذهب آخر!
وقد يغيب عن الكثيرين أن غالب كنائس مصر إنما هي مبنية بعد دخول الإسلام مصر بدءاً من كنيسة حلوان التي بنيت في عهد صاحب رسول الله والي مصر مسلمةَ بن مخلد وانتهاءً بالكنائسِ المبنيةِ في العصرِ الحديث.
قد يغيب عن الكثيرين أن سيدنا عمر بن الخطابِ وفد عليه قبطي يشتكي ظلم ابن الأمير له -أي ابن سيدنا عمرو بن العاص- فقد اشترك ابن عمرو بن العاص مع بعض الناس في سباق فسبق ذلك القبطيُّ ابنَ الأمير، فغضبَ وضربه وقال: أتسبقُ ابنَ الأكرمين!؟
هنا اتجه القبطي المضروب لا إلى أميره في مصرَ بل شدَّ الرحال قاصداً مدينةَ رسولِ الله مُريداً ملاقاة الخليفة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليشتكي له من ظلم ابن الأمير في مصر!
أرفض عمرُ ملاقاتَه؟ أقال له: لماذا لم تَشكُ إلى الوالي عندك؟ أَوَبَّخَه على تظلمه من المسلم؟
لا، تخيلوا ما الذي حدث؟ لقد كتب عمرُ مرسوماً من مقر الخلافة لدار الإمارة في مصر يأمر سيدَنا عمراً بن العاص بالقدوم ومعه ولده!
حضر عمرو بن العاص-الوالي-رضي الله عنه ومعه ولده للمدينة.
وانتصب مجلس الخليفة ويجلس المصري القبطي خصماً لصحابي جليلٍ مسلمٍ أميرٍ!
يجلس المحكوم خصماً لحاكمه أمام الخليفة الراشد عمرَ.
ثمَّ يأمر سيدنا عمرُ بن الخطابِ ذلك القبطي أن يأخذ السوط، ويقوم ليجلد ابن عمرو بن العاص أمام الخليفة وأمام والد الوالي وأمام الجميع وعمرُ رضي الله عنه يقول: اضرب ابنَ الأكرمين!
نعم، هكذا فعل سيدنا عمرُ، دون مراعاة لاختلاف دين ولا حاكم ومحكوم!
هل اكتفى عمرُ بذلك؟
كلا، لقد أمرَ القبطي أن يضرب عمراً أيضاً قائلاً للقبطي: اُعْلُ بالسوطِ على رأسِ عمروٍ!
فقال المصري: يا أميرَ المؤمنين لقد شفيتُ غليلي، وإنما الذي ضربني ابنُه لا هو.
توجه عمرُ بالخطاب لعمروٍ واليه وصاحب رسول الله قائلاً: مُذْ كم تَعَبَّدْتُمُ الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!؟
فردَّ عمروٌ قائلاً: "يا أميرَ المؤمنين لم أعلم ولم يأتني"!
هذا الموقف هو التجسيد الحيُّ أيها القارئُ لكيفية تعامل المسلمين عند دخول الإسلام مع غير المسلمين، وعلى هذا النهج سار المسلمون مع غيرهم أبناءً لوطن واحدٍ وإن اختلفت أديانهم فلم يُظْلَمْ غير المسلمِ بسبب دينه ولا رصدَ التاريخ حالة إكراه واحدةً على الدين!
هذه هي مهام الحاكم المسلمِ التي كان متوجباً عليه القيام بها، وهي العدل المطلق، وهو ما تعنيه كتب الدين الإسلامي بفلظ "أهل الذمة" أي: من وجبت لهم بأمانة اللهِ الرعايةُ والحريةُ والأمنُ لا بِمِنَّةِ أحدٍ من الخلقِ.
تلك الحقوق التي تفرد الإسلامِ بضمانتها لغير المسلمين المقيمين بأرضِه في وقتٍ لم يكن العالم يعرف فيه غير لغة الحرب والدمار.
وحافظ المسلمون على إخوانهم من أبناء الوطن يمارسون حياتهم ابتداءً من الجيل الأول لدخول الإسلام مصرَ حتى اليوم، فكانت المواطنة استمداداً واستلهاماً من ذلك العدل والنظامِ الذي قرره المسلمون لغيرهم في مصر عندما حرروها من يد المحتل الروماني الباطش.
نحن بحاجةٍ لقراءةِ التاريخ مرةً أخرى، لكي تتضحَ لنا حقائقُ أصبحَ المغرضونَ يحاولون طمسها.
وهنا نتساءلُ: لصالح مَنْ يَتِمُّ تنظيمُ هذه الحملاتِ المُمَنهجةِ بهدف تشويه الوجه الجميل لدين الإسلامِ وتاريخِه المُشرِق!؟
وما الغرضُ منها غير إضعافِ جَذْوةِ الإيمان في قلوب المسلمينَ وإشعارِهم بأن دينهم سببُ القتل والإرهاب منذ البداية!؟
أو الغرضُ هو إيصالُ رسالةِ للمرضى من الدواعش وغيرِهم بأنهم على الحقِّ سائرون وأنَّ ما يفعلونَه هو الدينُ الحقُّ؟
أم الغرضُ العزفُ على كلِّ الأوتار!؟
هل هناك غرضٌ غيرَ هذا!؟
أَعْلِمُوني إن وَجَدتُم، ولن تَجِدوا.
سيبقى الإسلامُ بتاريخهِ عظيماً، وسيبقى الوطن شامخاً ينبض بقلبِه حيَّاً، وسَيُضَمِّدُ أبناؤُه جراحَه، ومهما حاول المغرضون النهش في الوطنِ فلن تُصيبَ سِهامُهم لأن الله قد طَمْئَننا بذلك فقال: "إنَّ اللهَ لا يصلحُ عملَ المُفسدين"