حكاية من ألف حكاية وحكاية، منال زوجة وأم لثلاثة أولاد أكبرهم لديه ثلاث عشرة سنة وأصغرهم يبلغ سبع سنوات، منال خريجة كلية التربية اختارت أن تقعد فى البيت تخدم أسرتها وتربى العيال.
زوجها عماد راجل محترم موظف مسئول فى أحد قطاعات الدولة كل وقته ودخله لبيته ولعياله، وبعد سنين طويلة من الزواج، منال بدأت تحس بالزهق والملل، العيال كبروا ومش محتاجينها بنفس درجة احتياجهم لها فى السابق لما كانوا صغيرين، لذلك طلبت من عماد إنه يوافق إنها تنزل تشتغل وهو دايما بيرفض.
منال عملت بحث على الإنترنت ولقت وظيفة كويسة ومناسبة، صحيح المرتب ضعيف لكن مقبول، ورجعت تزن على عماد وتطلب منه تنزل تشتغل، بس المرة دى منال غيرت لغة الحوار من الكلام عن الزهق والملل للكلام عن الظروف والغلاء، ولازم نتعاون، وقرش على قرش يساعد، وانا حاسة بيك، ولازم أنزل أشتغل وأساعدك على غلاء تكاليف الحياة، والعيال كبرت والمصاريف زادت، والكلام الحلو اللى يخلى أى راجل يفكر ويقول وإيه المانع الحياة مشاركة.
القصد.. أخيرا عماد وافق أن منال تنزل تشتغل، وعلشان ماطولش عليكم، عدة شهور قليلة ومنال نسيت كل الكلام والاتفاق، وأصبح كل مرتبها لها هى وحدها، وطلباتها الخاصة من لبس ومكياج وغيره وموضوع المساعدة على غلاء تكاليف الحياة انتهى واتبخر من الوجود.
عماد طلب من منال تتحمل جزءا من التكاليف المطلوبة للأولاد وهى ردت عليه، إنت المسؤول إنت الراجل وإنت ملزم بمصاريف البيت والأولاد مش أنا، وانا لى ذمة مالية مستقلة، وانت مش المفروض تلزمنى إنى أدفع مرتبى فى مصاريف البيت، إنت الراجل يا بيه، وبعدين أهلى علمونى وصرفوا عليا علشان يكون ليا كيان وحياة، وانا من حقى أحقق ذاتى ومش خدامة أخدمك إنت وأولادك.
طلب منها عماد ترك العمل، قائلا: "خلاص إرجعى أقعدى فى البيت، أنا والأولاد والبيت لم نستفد شيئا من شغلك، بالعكس، إنتى مقصرة فى طلبات البيت والأولاد، والبيت محتاج وجودك يا هانم".
من هنا بدأ الصراع بينهما، منال مصممة على الشغل وعماد على منعها من النزول له، فى الحالة دى بيحصل حاجة من اثنين، الأولى خلاف قوى وعناد كبير يترتب عليه أن الزوجة تسيب البيت وتغضب ويمكن تطلب الطلاق كنوع من التهديد.. أو عناد من نوع مختلف إن عماد هو اللى يعاند ويقرر يسيب البيت كنوع من التأديب.
حل ثالث ممكن يدور فى دماغك إنهم يتفاهموا ويوصلوا لحل وسط أو إن منال تسمع كلام جوزها وتقعد فى البيت، وده حل بعيد كل البعد عن الواقع والطبيعى فى هذه الأيام، خليك واقعى، المهم، اللى حصل إن عماد هو اللى قرر يسيب البيت وكانت فكرته مبنية على إن الأولاد محتاجين أمهم أكتر وأنها لازم تفضل معاهم، وإنه مش معقول يبعد أم عن أولادها واختار -من وجهة نظره- إنه يتحمل البعد حفاظا على استمرار البيت مفتوح وسلامة حياة الأبناء واستقرارهم لأن استمرار الخلاف بين الزوجين ممكن يؤثر على الأبناء نفسيا واجتماعيا.
انفصل عماد عنهم واستقل بحياته بعيد عن الزوجة اللى اختارت لنفسها الطريق اللى يريحها وكل شهر يبعت مصاريف الأولاد، لكن مع الوقت وبسبب البعد وكلام منال عن عدم صحة موقف أبوهم؛ الأولاد حصل عندهم شعور بالجفاء ناحية الأب، وأصبح التواصل بينهم تدريجيا معدوما، لدرجة إن عماد بدأ يحمل منال مسئولية هذه الحالة وعدم رغبة الأولاد فى زيارته أو حتى رؤيته.
قرر عماد يعاقب منال وكانت الطريقة الأمثل إنه يمنع المصروف، ومن هنا بدأت مرحلة جديدة من الصراع والنزاع بين الزوجين، ولكن داخل أروقة المحاكم.
الزوجة رفعت دعوى نفقة ضد عماد الذى بدوره عمل لها إنذارا بالطاعة على مسكنه الجديد، وما كان من منال إلا أنها رفضت الإنذار والدخول فى الطاعة، وعملت اعتراضا على الإنذار، وتقريبا خسرته؛ لأنها لم تقدم أسبابا مقنعة للمحكمة عن رفضها عدم الدخول فى الطاعة.
بعد ذلك رفع عماد دعوى نشوذ ضدها، وأسقط حقها فى النفقة، ومنال زهقت وحست إن قانون الأسرة ضدها -من وجهة نظرها- فحولت القضية من اعتراض على إنذار الطاعة، لدعوى خلع، والمحكمة خلعتها مقابل التنازل عن كل حقوقها المادية، بما فيهم النفقة الزوجية.
طلب عماد إن العيال يعيشوا معاه -لو عايزين إنه يصرف عليهم- منال قالت له مش عايزة مصاريف ومش عايزة فلوس أنا عايزة ولادى يعيشوا معايا، والأولاد -بسبب البعد عن الأب- اختاروا الأم، وأصبحت منال ملتزمة لوحدها بمصاريف البيت والأولاد، وأصبحت المسئولية كلها عليها، وبقت هى الأم المعيلة والأب اللى غايب.
وبعد وقت طويل حصلت منال على حكم بالنفقة للأولاد ضد عماد بحوالى ثلث مرتبه، وهو الحد الأقصى للحجز على المرتب للنفقة، وفقا لأحكام القانون، لكن لما جت تنفذ؛ لقيت الثلث مقسم بين "الأولاد وحماتها، وكمان نفقة زوجته الجديدة" اللى تعمد اشتراكهم فى النفقة؛ بغية الإضرار بمصلحة منال، كأحد صور الانتقام والبغض.
وأصبح الثلث مقسما على ثلاثة، يعنى المبلغ أصبح المستحق للأبناء الثلاثة هو ٥٠٠ جنيه، البنت الكبيرة وصلت لسن التقاضى فى مسألة الأحوال الشخصية، والمحكمة حكمت لها لوحدها بمبلغ ٥٠٠ جنيه، والطفلين الثانى والثالث فى حكم تانى منفصل بمبلغ ١٠٠٠ جنيه، لكن جهة العمل لا تملك إلا تنفيذ حكم واحد فقط، لأن هناك شركاء فى الثلث، ولهم حصة.
وهنا يدخل الصراع مرحلة جديدة، هى أن الدولة من تتحمل نتيجة كل هذا النزاع، حيث تقوم الأم الحاضن بالتوجه إلى بنك ناصر الاجتماعى التابع لوزارة التضامن الاجتماعى؛ لصرف النفقة الشهرية منه، وبذلك تكون ميزانية الدولة مخصوما منها "نفقة الأبناء والزوجات اللاتى لم يجدن فى ذمة الأزواج مالا يجوز الحجز عليه".
وإليك أن تتخيل أن بنك ناصر كل أول شهر يدفع النفقة الشهرية لـ١٢ مليون أسرة، كان المفروض يصرف عليهم كل واحد زى عماد من راتبه الشهرى، مش نحمل الدولة فوق طاقتها.
هذه واحدة من آلاف الحكايات التى انتهت بهذه الطريقة المؤسفة بعد صراعات وخلافات ترتب عليها الفرقة بين الزوجين ومن ثم تدمير للأسرة وتشريد الأبناء، بل إن الأمر لا ينتهى عند هذا الحد من النزاع الشخصى والداخلى، بل يتعدى ذلك بكثير ليصل إلى الصورة التى تحمل الدولة تكاليف هذه الخلافات وأيضا تكاليف التقاضى، وصولا إلى صدور أحكام قضائية قد تتحمل أيضا الدولة تكاليف تنفيذها؛ لأن ذمة الزوج أو الأب المالية فارغة وليس بها ما يمكن الحجز عليه تسديدا لأحكام النفقة، ناهيك بالتكاليف الكبيرة التى تنفق عليها ميزانية الدولة من إنشاء محاكم ورواتب للعاملين بها، إلى جانب الوقت والجهد المبذولين طيلة مدة التقاضى من كل الأطراف وبخاصة الطرف المحايد وهو الدولة ومؤسسة القضاء، ولا يخفى عنكم مصاريف التقاضى ومقابل أتعاب المحاماة.
والنتيجة أن الدولة تستقطع من ميزانيتها ومن أموال المصريين جزءا كبيرا يصل لمئات الملايين من الجنيهات للإنفاق على أبناء النزاعات الزوجية، لأن مصر لا تتخلى عن أبنائها ولا تمتنع عن رعايتهم والإنفاق عليهم.
تلك هى النتيجة إن فشل استمرار الأسرة، فله بعد اقتصادى، إلى جانب البعدين القانونى والاجتماعى، والدولة هى من يتحمل العبء المادى؛ للحفاظ على بقاء هذه الأسرة التى رفض الزوجان استمرارها، دون أدنى شعور بالمسئولية بالنتائج المترتبة على "سوء الاختيار، وسوء العشرة، والفشل فى إدارة المشكلات الزوجية، وتدمير مستقبل الأولاد من جهة، وتحميل الدولة نفقات هذا الفشل من جهة أخرى".