في خضم الأزمات الطاحنة التي باتت تعصف بالداخل الإثيوبي، والتي تمخضت عن السياسات العرجاء التي أنتهجها رئيس الحكومة الإثيوبي "آبي أحمد" التي لم تستهدف في الواقع سوى ترسيخ صورة "الإمبراطور" الجديد لأرض الحبشة، بدأت أديس أبابا في انتهاج استراتيجية "إلهاء" الجميع عن الإخفاقات المستمرة للنظام الإثيوبي الراهن، والذي وضع البلاد على حافة التفكك والدخول في حرب أهلية واسعة، وتنطوي هذه الإستراتيجية الجديدة على ثلاثة مرتكزات أساسية، تتمثل الركيزة الأولى في فكرة خلق العدو الخارجي والعمل على حشد المجتمع نحو هدف وطني واحد يتمثل في صد هذا العدو المصطنع.
أما المرتكز الثاني، فيتمثل في الترويج لانتصارات وهمية لإقناع الجميع (في الداخل والخارج) بأن النظام لا يزال قادراً على الصمود والاستمرارية، أما الركيزة الأخيرة، فتتمثل في محاولة الترويج لفكرة المظلومية والرواية الإثيوبية المحرفة بشأن ملف سد النهضة، والعمل على كسب دعم أطراف دولية جديدة خاصةً في ظل التهافت الدولي والإقليمي على منطقة القرن الإفريقي، وفي هذا الصدد نشر مركز "رع" للدراسات الاستراتيجية، تقريرًا للباحث عدنان موسى، بعنوان "هل تعرض سد النهضة لهجوم مسلح؟" وفي هذا السياق شهد الملف الإثيوبي عدة تطورات هامة خلال الأيام الأخيرة جسدت هذه الاستراتيجية الجديدة ثلاثية الأبعاد، لعل أبرزها هي المزاعم الإثيوبية بشأن إحباطها لمحاولة استهداف سد النهضة.
إدعاءات إثيوبية:
أعلنت الحكومة الإثيوبية في الرابع من سبتمبر الجاري أن قواتها تمكنت من إحباط هجوماً استهدف التسلل لمنطقة سد النهضة من قبل مجموعة مسلحة (مكونة من 130 عنصر) تابعة لجبهة التيجراي، وقد جاء هذا الإعلان عبر تصريحات ألقى بها العقيد "سيف إنجي" منسق عمليات الجيش الإثيوبي في منطقة “متكل” الواقعة في إقليم بني شنقول (على تخوم الحدود السودانية) الذي يضم سد النهضة الإثيوبي، ووفقاً للرواية الإثيوبية، فقد تمخض عن هذا الهجوم مقتل نحو 50 شخصاً وإصابة نحو 70 آخرين، وقد كانت هذه المجموعات حاولت إحداث تعطيل في أعمال السد من خلال بعض المتفجرات، قبل أن يتمكن جيش أديس أبابا من إحباط هذه المحاولة والاستيلاء على الأدوات التي كانت بحوزة هذه المجموعة.
وفي هذا الصدد، وجه الجيش الإثيوبي اتهامات إلى السودان بدعم المجموعات المسلحة التي استهدفت سد النهضة، فقد أشار البيان الإثيوبي إلى أن "الهجوم الذي تعرض له سد النهضة جاء عن طريق منطقة "المحلة" المتاخمة للحدود الإثيوبية- السودانية، في اتهام ضمني للخرطوم بدعمها وتسهيلها لهذا الهجوم الذي استهدف السد الإثيوبي وذلك وفقاً لإدعاءات أديس أبابا.
السودان يرد بقوة:
جاء الرد حاسماً وسريعاً من قبل الحكومة السودانية، فقد أعلن الناطق باسم الجيش السوداني “طاهر أبو هاجة” أن بلاده تؤكد بأن هذه الاتهامات لا أساس لها من الصحة، وأن الخرطوم وجيشها لا يتدخلان في الشأن الداخلي الإثيوبي، داعياً حكومة “آبي أحمد” بالعمل على حلحلة أزماتهم الداخلية وتجنب إقحام السودان فيها، ملمحاً إلى أن الاتهامات الإثيوبية لا تعدو كونها محاولة من قبل النظام الإثيوبي المنهار بسبب الواقع المتأزم الذي نجم عن انتهاكات نظام “آبي” ضد حقوق الشعب الإثيوبي.
وفي الواقع، لم تكن هذه المرة الأولي التي تعلن فيها أديس أبابا عن تعرض السد لمحاولة استهداف، فلطالما لوحت الحكومة الإثيوبية عدة مرات بورقة تعرض سد النهضة لهجمات خارجية في محاولة منها للتغطية على أزمات أخرى، وقد كان أخرها في يونيو الماضي، عندما أدعت وكالة “أمن المعلومات الإثيوبية” رصدها لمحاولات شن هجوم إلكتروني على عدة آلاف من أجهزة الكومبيوتر المرتبطة بعملية الملء الثاني.
لكن، ارتبطت مزاعم إثيوبيا هذه المرة بمحاولة خلق عدو مزدوج من خلال محاولة شيطنة جبهة تحرير التيجراي باتهامها بمحاولة استهداف المشروع القومي للدولة الإثيوبية (على حد وصف حكومة أديس أبابا)، وربطها بعدو خارجي "مصطنع" وفقاً للبيان الصادر عن العقيد الإثيوبي "سيفي إنجي" والذي ألمح فيه إلى أن جبهة تحرير التيجراي، هي التي حاولت الهجوم على سد النهضة بالتنسيق مع "عدو إثيوبيا التاريخي" (دون تسميته)، وهو ما يعكس بقوة مساعي حكومة "آبي أحمد" لحشد الموقف الداخلي الهش والمتفاقم ضد عدو وهمي لتجنب الانهيار الوشيك للدولة الإثيوبية.
انتصارات وهمية:
تتمثل الركيزة الثانية للاستراتيجية الثلاثية التي تتبعها الحكومة الإثيوبية على الترويج لانتصارات وهمية لتعزيز صورتها الداخلية والخارجية، وفي هذا السياق، بينما تشير فيه العديد من التقارير الدولية بأن خسائر الحكومة الإثيوبية مستمرة في ظل تنامي خصومها واتساع رقعة انتشارهم، بيد أن الحكومة الإثيوبية لم تتحرج في الزعم بأنها تمكنت من قتل أكثر من 5600 عنصر من قوات التيجراي في شمال البلاد، وهو ما أشار إليه البيان الصادر عن الجنرال "الكبير باشا ديبيلي"، لكنه لم يحدد أي تفاصيل عن الإطار الزماني والمكاني الذي قتل فيه هؤلاء، وهو ما عزز الشكوك بشأن صحة هذه المزاعم.
وفي هذا الصدد، تعكس التطورات الراهنة على الأرض استمرار التقدم الذي تحرزه قوات جبهة تحرير التيجراي في إقليمي أمهرة وعفار تعدد الأطراف الداخلية المتحالفة معها ضد عدوهم المشترك، والمتمثل في “آبي أحمد”، وهو ما بلغ حد ترجيح بعض التقارير الدولية لسيناريو انفراط وحدة الدولة أو حدوث انقلاب عسكري يتم خلاله إقصاء “آبي أحمد” لمحاولة الحفاظ على النظام الفيدرالي.
استمرار حملات الترويج الخارجية:
بعد فترة من الهدوء النسبي في ملف سد النهضة، عاد الملف ليفرض نفسه من جديد في إطار الحديث عن مساعي مصرية وسودانية لإعادة طرح القضية على مجلس الأمن لمحاولة تمرير مشروع القرار التونسي الذي تم تقديمه خلال الجلسة الأخيرة التي شهدت بحث تطورات سد النهضة، حيث ينطوي هذا القرار على مطالبة أديس أبابا بوقف أي إجراءات أحادية تضر بدولتي المصب.
بيد أن إثيوبيا عمدت خلال الفترة الأخيرة إلى تكثيف تحركاتها الخارجية للترويج لروايتها المحرفة بشأن المظلومية الإثيوبية بشأن سد النهضة، وفي هذا السياق يمكن فهم الزيارات الخارجية المتكررة لمسئولي أديس أبابا، وقد كانت آخر هذه التحركات الخارجية لإثيوبيا هي مباحثات هاتفية بين وزير الخارجية الإثيوبي “دمقي مكونن” ووزير الشئون الخارجية الهندي "س. جايشانكار"، حيث دعا الوزير الإثيوبي خلال اللقاء نظيره الهندي إلى رفض المقترح التونسي، ويجب الأخذ في الاعتبار أن الهند تعد أحد الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن في الدورة الحالية، ومن ثم تسعى أديس أبابا لمحاولة التواصل مع أعضاء المجلس لتجنب أي موقف دولي يضغط لتغيير موقفها المتعنت.
وفي هذا الصدد، نشر موقع "المونيتور" الأمريكي تقريراً بشأن تطورات ملف سد النهضة، حيث أشار التقرير بأنه لا يوجد ضمانات بشأن التزام إثيوبيا بالتوصل إلى اتفاق ملزم حال تم استئناف المفاوضات من جديد، كما ألمح التقرير بأن هذا الفشل المتوقع لأي مفاوضات مقبلة لا يمثل العقبة الوحيد أمام التوصل لاتفاق شامل وملزم بشأن ملئ وتشغيل سد النهضة، بل بات يرتبط أيضاً بمساعي أديس أبابا إلى إحياء فكرة "إعادة تخصص حصص مياه النيل" بين دول الحوض بناء على مساهمات كل منها وإدراج ذلك في مفاوضات سد النهضة، ولعل هذا ما عكسته دعوة "آبي أحمد" خلال زيارته الأخيرة إلى أوغندا للدول التي لم توقع أو تصدق على الاتفاقية الإطارية “عنتيبي” إلى الإسراع في إتمام ذلك.
ماذا بعد؟:
تعكس التحركات الراهنة لحكومة "آبي أحمد" درجة التأزم والتعقيد التي باتت تهيمن على المشهد الداخلي في أديس أبابا، في ظل تصاعد حدة الخناق على النظام الإثيوبي الحالي واتساع رقعة الاستعداء الداخلي له، والتي باتت تهدد استمراريته بدرجة كبيرة، حتى بات الحديث عن انهيار حكومة "آبي" هل مسألة وقت وفقاً لبعض الترجيحات، وفي هذا السياق ربما تسعى إثيوبيا إلى حشد دعم داخلي وخارجي لها من خلال الترويج لمزاعم وهمية تسعى من خلالها تعزيز صورتها، وربما تعمد أديس أبابا إلى التمهيد إلى شن عمليات موسعة ضد خصومها الداخليين مستعينة في ذلك على دعم خارجي من قبل بعض القوى الدولية والإقليمية، خاصة في ظل تخوف الحكومة الإثيوبية من التقدم المستمر لقوات التيجراي، وهو ما دفعها إلى التحذير من إمكانية نشر "كامل قدراتها الدفاعية" لوقف هذا التمدد.
في النهاية، يبدو أن الحكومة الإثيوبية المنهارة باتت تعمل على الترويج لفكرة العدو المشترك للحيلولة دون استمرار تنامي التحالف الذي تقوده جبهة تحرير التيجراي (والذي بات يضم الأورومو والسيداما وجزء من العفر والقمز)، والعمل على تخوين الجبهة وربطها بأعداء خارجيين مزعومين لتجنب سقوط أديس أبابا، وفي الأخير يجب الأخذ في الاعتبار فكرة أنه على الرغم من الانقسامات والعداءات الداخلية التي تعاني منها إثيوبيا، إلا أن هناك توافقاً نسبياً بين مختلف الأطراف بشأن أهمية سد النهضة لهم، وهو ما يدحض بقوة اتهامات أديس أبابا لجبهة تحرير تيجراي بشأن استهداف السد، خاصةً وأن الجبهة كانت هي التي تقود البلاد عام 2018، وكانت متمسكة أيضاً بملف سد النهضة، مما يدعم فكرة أن المزاعم الإثيوبية، هي مجرد روايات تسعى أديس أبابا لترويجها.