في العشرين من مايو عام 2007، خرجت الفلسطينية فاطمة الزق من منزلها في مدينة الشجاعية بقطاع غزة، عازمة على القيام بعملية استشهادية في حافلة تتبع قوات الاحتلال بالقرب من "معبر إيرز"، كانت تعلم وجهتها جيدًا اتخذت القرار وأسرعت لتنفيذه، لم تدر أنّ القدر يحمل لها خيار آخر، على مرمى بصرها كان الهدف، لم تُفكر في شيئ سوى صغارها التي تركتهم خلفها، لكنّها آمنت أنّ ما تفعله من أجلهم، قبل لحظات من تنفيذ المهمة كُشفت فاطمة ووقعت أسيرة في أيدي الجنود، لكن المفاجأة الكُبرى أنّ فاطمة لم تكن بمفردها فرافقها بطل صغير كان جنينًا في أحشائها.
"أنا بحب وطني من صغري بذرة نمت بقلبي، منذ الطفولة كنت بلاحق جنود الاحتلال بالحجارة"، كغيرها من أطفال فلسطين زُرع بداخلهم حب الوطن لكن كان الأمر مختلفًا بعض الشيئ بالنسبة لفاطمة، مما زاد من خوف والدها عليها خاصة لأنّه تيقن أنّه من الممكن أن يفقد ابنته إمّا في الأسر أو برصاصة طائشة من جندي، وزاد الأمر سوءًا بعدما لاحقها أحد الجنود وهي بالصف الثالث الثانوي أثناء خروجها في مظاهرة، مما دفع والدها لمنعها من استكمال دراستها واتخاذ قرار زواجها ظنّا منه أنه يحميها، وقتها لم تتجاوز فاطمة الثمانية عشر من عمرها.
بدأت فاطمة في بناء حياة جديدة، كانت تشارك في مواساة الشهداء والأسرى، تعلمت التجويد وتلاوة القرآن، بالإضافة إلى الخياطة والتطريز، وأسست مركز تحفيظ للقرآن الكريم عام 2000، لكنّها لم تنسى قسمها الذي أقسمت به وهو تضميد جراح وطنها، المشوار الذي ينتهي بالشهادة، هنا قررت أن تختار إمّا الحياة برفقة أطفالها الثمانية أو الثأر لوطنها ودماء رفاقها الشهدداء، فلم تتردد فاطمة في اختيار الشهادة وبدأت الاستعداد للمهمة.
صباح يوم الأحد السابع والعشرين من مايو عام 2007، توجهت فاطمة إلى معبر إيرز أو كما يطلق عليه معبر بيت حانون، وبرفقتها تصريح طبي اتخذته كتمويه كونها ذاهبة للمستشفى، وصلت فاطمة للمعبر بدأت عملية التفتيش، حتى الآن هي آمنة فالحزام الناسف ستحصل عليه بعد المرور من المعبر من أجل إتمام المهمة وهي تفجير جنود في تل أبيب (تل الربيع).
لم تدري فاطمة أنّ استخبارات اليهود قد علمت هويتها والمهمة التي تقوم بها، تحفظوا عليها في المعبر وبدأ التحقيق معها، كل ذلك ولم تشعر فاطمة أنّ هناك جنينًا في أحشائها، بعد انتهاء التحقيق في االمعبر نقلوها إلى زنازين عسقلان، وأثناء إجرائها بعض الفحوصات الطبية سألتها الطبيبة هل هي حامل أم لا، ولأنّ فاطمة لم تكن تعلم شيئ عن حملها أخبرت الطبيبة بعدم حملها، لكن بعد فترة شعرت بشيئ غريب وطلبت من السجن إجراء فحوصات طبية جديدة وبعد معاناة ومراوغة من المجندات والجنود وافقوا على إجراء الفحوصات، لتخرج النتيجة إيجابية.
عاشت فاطمة ليالي من العذاب، أثناء عملية التحقيق معها في السجن، أسبوع كامل تم ربطها على أحد الكراسي دون أي إنسانية، منعوا عنها الطعام ، لم يخلوا جسدها من علامات أسلاك الكهرباء، حاولوا إجهاض جنينها، أصيبت بنزيف حاد وكادت أن تفقد الطفل.
بعد أيام قليلة نُقلت فاطمة إلى سجن النساء، وهناك بدأت رحلة معاناة جديدة أشد ألمًا وقسوة الزنازين أشبه بقبور لا أشعة ولا هواء بداخلها، تسكنها الحشرات وتملأها الرطوبة والعفن في فصل الصيف، والبرد القاسي في فصل الشتاء، منعوا زيارة أهلها وأبنائها منعوا عنها الملابس، إلّا بعضا منها كانت تصلها عن طريق أهالي الأسيرات في الضفة، كل تلك المعاناة لم تكن شيئ مقابل حماية جنينها.
"عذبتني الطبيبة أثناء الولادة كانت تُردد إرهابية تلد إرهابي"، بعد رحلة معاناة قصيرة بمفردها، قدم رفيقها يوسف إلى الحياة ملأ الأرض بهجة، عاش المحنة معها بالسجن طاله الظلم والحرمان، منعوا عنه الحليب وعمره شهرين، لكن كانت الأم تُحاول أن تخفف عن رضيعها فقد أضاء لها عتمة السجن بعد نور الله، 3 سنوات قضاها يوسف بداخل زنزانة لا يشاهد سوى الأسيرات لا يعلم شيئ عن أبيه وإخوته، جاء إلى الدنيا في ظروف قاسية حاول الاعتياد عليها لكنّ فرج الله كان الأقرب.
فاطمة التي تبلغ من العمر حاليًا 51 عامًا، والتي تمّ تحرير أسرها قبل 10 سنوات هي وطفلها يوسف، كان قد حكم عليها بـ12 عامًا، لكن شاء القدر أن تقضي فاطمة بالسجن 3 سنوات فقط، فدخلت الفلسطينية ضمن صفقة الجندي شاليط.
قبل 4 أيام من الحرية وتحديدًا يوم الثلاثاء، كانت فاطمة تجلس برفقة مندوبة الصليب الأحمر في ساحة السجن بالمردوان، قطع حديثهم صراخ وتكبير على أبواب الزنازين ونادت بعض الأسيرات بأنّ هناك صفقة بين الاحتلال والمقاومة في غزة 20 أسيرة من بينهن أم بطفلها، ولم يكن بالمعتقل سوى فاطمة ويوسف، وتحققت الأمنية الحلم الذي كان بعيد المنال لكنّه أصبح حقيقة، وفي يوم الجمعة الموافق الثاني من أكتوبر من عام 2009 كان اللقاء الأول بين يوسف وإخوته، اليوم، الذي عادت فيه فاطمة لأسرتها.
"نموت واقفين ولن نركع، نموت لأجل أن يحيا الدين والوطن" لا زالت فاطمة تسلك درب الجهاد لكن تلك المرة كان بطريقة مختلفة ألا وهي الحديث والدفاع عن الأسيرات.