صرح الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف بأن أي حوار لا بد له من هدف وغاية يسعى إليها ، وأسس محددة يبنى عليها ، ومجالات محددة يدور فيها ، فثمة حوار بين الأديان ، وآخر بين الثقافات ، وثالث سياسي أو اجتماعي ، وقد يكون الحوار خاصًا حول قضية محددة أو عامًا مفتوحًا للتعرف على مجمل الرؤى المجتمعية أو الوطنية.
ولا بد من تحديد إطار عام لكل جلسة من جلسات النقاش ، وأن تكون البداية بتحديد المحاور العامة ، وترتيب أولوياتها ، ولا شك أن ذلك يقتضي من المتحاورين وعيًا وطنيًّا وفكريًّا بطبيعة المرحلة داخليًّا وخارجيًّا.
وبعد تحديد المحاور يدعى كل متخصص إلى مجاله الذي يتقنه ويعتد برأيه فيه ، السياسيون فيما يتصل بالشأن السياسي ، والاقتصاديون فيما يتصل بالمجال الاقتصادي ، وعلماء الدين فيما يخصهم ، وهكذا في سائر المجالات، أما أن يريد شخص ما أن يقحم نفسه في كل مجالات الحوار ، سواء أكان متخصصًا فيها أم غير متخصص ، إن دُعِيَ رضي وأشاد ، وإن لم يُدع سخط وحكم بفشل الحوار مسبقًا ، فهو ما لا يستقيم معه حوار.
الحوار على زنة فِعال ، والمحاورة على زنة مُفاعلة، يقتضيان المشاركة ، ولا يقعان من طرف واحد، يقال: تحاور محمد وعلي، أو توافقا ، أو تشاركا ، أو تطاوعا ، أي حاور ، أو وافق ، أو شارك ، أو طاوع كل منهما صاحبه ، ولا يُتصوَّر أن يحاور الإنسان نفسه.
وعليه فالحوار يقتضي أن تُعامل الآخر بما تحب أن يُعاملك به ، وأن تنصت إليه قدر ما تحب أن ينصت إليك ، وأن تأخذ إليه الخطوات التي تنتظر منه أن يخطوها نحوك ، وإلا فحاور نفسك ، واسمع صوت نفسك ، ولا تنتظر أن يسمع الآخرون صوتك.
الحوار الناجح هو القائم على الحق ، المبني على الصدق ، لا على الكذب ، ولا التزييف ، ولا السفسطة ، ولا المغالطة ، ولا مجرد المغالبة لذات المغالبة.
فالحوار لا يعني الشقاق ، ولا يمت للعصبية العمياء بصلة، ولا يرمي الناس بالإفك والبهتان ، ولا يخرج عن الموضوعية إلى غيرها قصد إحراج المحاوَر ، أو إسكات صوته بالباطل ، كأن يحاور شخص شخصًا آخر في قضية فكرية فإذا هو يتحول إلى هجوم شخصي عليه ، أو على أسرته ، أو قبيلته ، أو حزبه ، أو دولته ، عجزًا منه عن مقارعة الحجة بالحجة ، وهروبًا من الموضوعية التي لا قِبَل له بها إلى السباب والفحش الذي قد لا يجيد غيرهما.
كل ذلك شيء والحوار شيء آخر ، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى لسيدنا موسى وهارون (عليهما السلام) : "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى"، فأمرهما الحق سبحانه وتعالى أن يقابلا طغيان فرعون بالحكمة والموعظة الحسنة ، والقول اللين الحسن ، وألا يقابلا طغيان جبروته بمثل فعله أو لغته.
ومن أبجديات الحوار حسن الاستماع للآخر ، وعدم مقاطعته ، أو إبداء عدم الرغبة في سماعه ، أو التأفف من كلامه، أو الإشاحة في وجهه ، وإظهار التبرم منه غمزًا ، أو لمزًا، أو سخرية ، أو تهكمًا إشاريًّا ، أو حتى تبسمًا ساخرًا ينم عن عدم تقدير المحاور ، أو إظهار عدم الاقتناع بما يقول تهوينًا لشأنه ، ناهيك عن ارتفاع الصوت واشتداد الصخب والجلبة ، فضلاً عن سوء الأدب في الحوار.
وإن أخطر ما يعوق الحوار أمران هما : الأدلجة والنفعية؛ فأما الأدلجة فإن العالم أو الكاتب أو المحاور المؤدلج تحمله عصبيته العمياء للجماعة التي ينتمي إليها إما على عدم رؤية الحق ، وإما على التعامي عنه ، إذ يمكن لأحدهم أن يحاورك أو يجادلك أو يقبل نقاشك في مفهوم آية من كتاب الله (عز وجل) أو حديث صحيح من سنة سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا يقبل منك أن تحاوره أو تناقشه أو تراجعه في كلام مرشده المقدس لديه.
وأما النفعيون والمتاجرون بالأديان والقيم والمبادئ فلا يدافعون أبدًا عن الحق، ولا ينتظر منهم ذلك ، إنما يدافعون عن مصالحهم ومنافعهم فحسب ولا شيء آخر.
وختاما أؤكد أن الحوار الحقيقي يديره الخبراء والمتخصصون كل في مجاله فأفق الحوار السياسي له رجالاته و الشأن الاقتصادي له خبراؤه والديني له علماؤه.
والمشاركة في الحوار يمكن أن تكون مباشرة من خلال الجلسات الحوارية أو غير مباشرة من خلال المقالة أو البرامج الإعلامية أو المداخلة أو التعليق بالرأي ، أما يخرج عن حدود اللياقة والأدب فسمه أي شيء غير أن يكون حوارا ، وليس بوطني من إذا دعي هو رضي وأشاد ، وإن لم يدع سخط وحكم مسبقا بفشل الحوار ، إذ لا يمكن أن يُنجح الحوار غير من يؤمن به ويؤثر مصلحة الوطن العليا على كل المكاسب الشخصية أو الحزبية أو الفئوية ، أما المتاجرون بالدِّين أو الوطنية فما أسرع انكشافهم وافتضاح أمرهم.