عُرف هارون الرشيد حاكم وخليفة الدولة العباسية، باهتمامه بالعلماء والفقهاء، وحرصه على الأخذ برايهم في جميع شؤونه، وعرف أيضًا بحبه لزوجته الأولى زبيدة بنت جعفر بن المنصور، ابنة عمه، وأهم نسائه وحفيدة مؤسس الدولة العباسية أبو جعفر المنصوري، فهي حفيدة خليفة وزوجة خليفة وأمًا لخليفة.
وعلى الرغم من كثرة قصص الطلاق، إلا أن قصة هارون الرشيد وزبيدة كانت أكثرهم غرابة، لا سيما وأن قصة حبهما يُضرب بها المثل، فما حدث معهم كان بمثابة صدمة، فالخليفة طلق زوجته بطريقة غريبة للغاية، فقال لها وهو في حالة غضب: "أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة"، فحزنت حزنا شديدًا، وندم أمير المؤمنين على هذه العبارة التي صدرت منه، وانتابته الحيرة، هل ما زالت زبيدة زوجة له؟ أم أنها طالق، وابتعد عنها ولم يُعد يقربها، وظل يبحث عن مخرج له من هذه المحنة حتى لا يفقد زوجته التي أحبها.
وجمع هارون الرشيد الفقهاء والذين بدورهم أختلفوا على قسمه، مما اضطره للكتابة إلى البلدان لاستحضارعلماءها إليه، فلما اجتمعوا جلس لهم فسألهم عن قسمه هذا "أنت طالق إن لم أدخل الجنة"، فاختلفوا وبقي شيخ لم يتكلم، وكان في آخر المجلس، وهو الإمام الليث بن سعد مفتي أهل مصر، فسأله هارون الرشيد لماذا لم تتكلم، فقال له "الليث": إذا أخلى أمير المؤمنين مجلسه كلمته وبالفعل أخلى "الرشيد مجلسه وبقي هما الأثنين فقط، فقال الإمام الليث: يسمح لي امير المؤمنين..أن أقترب؟، فسمح له هارون الرشيد..فاقترب.
فقال الليث: أتكلم على الأمان، يا أمير المؤمنين، فقال هارون الرشيد: نعم تكلم ولك الأمان، فطلب الإمام الليث مصحفًا فأحضروه، فأخذه وقدمه إلى هارون الرشيد، وقال له: "تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن"، فتصفحه هارون الرشيد حتى وصل إلى سورة الرحمن، فقال الإمام الليث: اقرأ يا أمير المؤمنين، فأخذ هارون الرشيد يقرأ، إلى أن وصل إلى قوله تعالى: "ولمن خاف مقام ربه جنتان".
فقال الإمام الليث: "أمسك يا أمير المؤمنين"، فتوقف هارون الرشيد عن القراءة، فقال الإمام الليث: "قل يا أمير المؤمنين"، "وأقسم بالله"، فسكت هارون الرشيد، واشتد ذلك عليه، وتردد، فقال الإمام الليث: "لقد اشترطنا يا أمير المؤمنين، فأقسم بالله العظيم، فاستجاب هارون الرشيد وأقسم بالله العظيم.
فقال الإمام الليث: قل يا أمير المؤمنين وأنت تردد القسم "إني أخاف مقام ربي"، فقال أمير المؤمنين "إني أخاف مقام ربي"، فابتسم الإمام الليث وقال: "يا أمير المؤمنين، لك جنتان، وليست جنة واحدة".
ففرح هارون الرشيد وتهلل وجهه بالسرور، واطمأن إلى أن زبيدة ما زالت زوجته، وليست طالقًا، وانطلقت الزغاريد في القصر، وقال هارون الرشيد للإمام الليث: لقد أحسنت"، وأمر بأن يكون له خراج الجيزة، أي كل ما يأتي منها، وأن يكون أمره فوق أمر الولاة في مصر، وأن يسري حكمه على القضاة، وقبل الإمام الليث بذلك، لكنه لم يقبل بأن تكون له ولاية مصر عندما عرضها عليه.