بينما يسعى رئيس غير تقليدي لفرض رؤيته الخاصة على السياسة الدولية، تنشأ تحالفات أكثر استقرارًا بعيدًا عن النفوذ الأمريكي، مما يؤدي إلى إضعاف الولايات المتحدة بدلاً من تعزيز قوتها.
وفي هذا المقال، تستعرض الكاتبة الصحفية نسرين مالك من صحيفة الجارديان البريطانية بعض الجوانب المهمة للتحديات التي لا تواجه الولايات المتحدة وحدها، بل تمتد آثارها إلى العالم بأسره.
الولايات المتحدة بين التهديد والانسحاب
يستخدم دونالد ترامب استراتيجيات الإلهاء عبر إبقاء الأنظار مسلطة على الولايات المتحدة، سواء من خلال ترهيب الدول الأخرى بالقوة الصارمة أو عبر نفوذها المالي الضخم الذي تمارسه من خلال مؤسسات مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID), ومع ذلك، فإن ما يفعله في الواقع هو تقليص الدور الأمريكي على الساحة الدولية، وتحويل البلاد إلى قوة إمبريالية تتدخل فقط حينما تخدم مصالحها، متخلية عن دورها كقائد عالمي.
من الهيمنة إلى المشاركة الانتقائية
رغم سيطرتها على العناوين الرئيسية، فإن الولايات المتحدة تتراجع تدريجيًا من موقعها كقوة عسكرية وأخلاقية واقتصادية، وتتحول إلى لاعب يختار متى وأين يتدخل, هذا التراجع لم يبدأ مع ترامب.
بل كان قوسه واسعًا منذ نهاية الحرب الباردة، عندما كان يُفترض أن يؤدي انهيار الاتحاد السوفييتي إلى عالم تسوده الديمقراطية والاقتصاد الحر, إلا أن العقود الثلاثة التالية شهدت تمددًا أمريكيًا عسكريًا تبعه انسحاب سريع.
من حروب الشرق الأوسط وأفغانستان إلى تراجع النفوذ الدبلوماسي، حيث لم يكن للولايات المتحدة في 7 أكتوبر 2023 أي سفراء في إسرائيل أو مصر أو لبنان.
الصين تعيد رسم الخريطة الاقتصادية
في الوقت الذي تقلّص فيه الولايات المتحدة دورها، تتحرك الصين بسرعة لملء الفراغ, فقد أصبحت الشريك التجاري الأكبر لأفريقيا، حيث تستحوذ على 20% من صادرات القارة، وتمثل 16% من وارداتها.
كما أنها تستثمر بشكل استراتيجي في البنية التحتية، النقل، التعدين، والطاقة، ما يجعلها لاعبًا رئيسيًا في التنمية الاقتصادية. ومع تغير أنماط التجارة، تتراجع العلاقات بين دول الشمال، في حين تزدهر العلاقات بين دول الجنوب، ما يؤدي إلى عالم أكثر استقلالية عن الهيمنة الغربية.
دول الخليج.. استثمارات ضخمة واستقلال استراتيجي
في الشرق الأوسط، تلعب القوى الإقليمية دورًا متزايدًا على الساحة العالمية, فدول الخليج، مثل السعودية وقطر والإمارات، تستثمر مليارات الدولارات في الولايات المتحدة، لكنها في الوقت ذاته تعمل على توسيع نفوذها خارج الإطار التقليدي للسياسات الأمريكية, وبحسب المجلس الأطلسي.
تسعى هذه الدول إلى تحقيق "استقلال استراتيجي عن الغرب"، من خلال تعزيز علاقاتها مع تركيا ودول أخرى، في ظل تحول مركز الثقل الاقتصادي نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
انهيار النفوذ الأمريكي أمام تحالفات جديدة
لم تعد العقوبات الأمريكية فعالة كما كانت سابقًا، حيث تمكنت روسيا من تفادي الكثير منها عبر قنوات تجارية مع الصين والإمارات وتركيا, هذه الدول أصبحت قوية للغاية ومندمجة في الاقتصاد العالمي لدرجة تجعل فرض عقوبات ثانوية عليها غير عملي.
على سبيل المثال، العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على الأطراف المتحاربة في السودان قد يكون لها تأثير محدود، نظرًا لأن موردي الأسلحة الرئيسيين، مثل إيران وروسيا، إما خارج نطاق النفوذ الأمريكي أو يتمتعون بنفوذ يجعل تأديبهم صعبًا.
العولمة... السلاح الذي ارتدّ على الولايات المتحدة
المفارقة أن العولمة، التي كانت تهدف إلى ترسيخ الولايات المتحدة كقوة اقتصادية مهيمنة، أصبحت الآن تساهم في تآكل نفوذها, فقد أدت سياسات تحرير التجارة، وتسهيل حركة رأس المال، وإلغاء القيود التنظيمية، إلى خلق عالم لم يعد يُقسم بين "محاور شر" معزولة وأنظمة مطيعة.
بل أصبح أكثر تنوعًا واستقلالية, ونتيجة لذلك، أصبحت لدى الدول خيارات أكثر بعيدًا عن النفوذ الأمريكي، مما يعزز تحولات جيوسياسية غير مسبوقة.
ترامب وسنوات من الفوضى القادمة
مع استمرار ترامب في تحطيم القواعد التقليدية وإعادة تشكيل النظام العالمي، فإن الدول التي تمتلك الموارد والقدرة على تنويع تحالفاتها ستبحث عن شركاء أكثر استقرارًا, وبينما قد يعتقد ترامب أنه يعيد تأكيد الهيمنة الأمريكية، فإن سياسته الفوضوية قد تعجل بانحدارها.
النهاية... وبداية جديدة
في النهاية، قد تكون النتيجة الكبرى لنهج ترامب هي خلق عالم لا يعتمد على الولايات المتحدة كما كان في الماضي, ومع انحسار النفوذ الأمريكي، يبرز لاعبون جدد يعيدون كتابة قواعد اللعبة الدولية، ما يجعل المستقبل أكثر ازدحامًا وصراعًا، حيث تصبح القوة السياسية والاقتصادية أكثر قابلية لإعادة التوزيع.
المفارقة أن ترامب، الذي يحاول فرض هيمنته، قد يكون في الواقع أكبر محفز لعالم متعدد الأقطاب, وبينما يلقي بظله الثقيل على المشهد الدولي، فإن المزيد من الدول بدأت بالخروج من تحت هذا الظل، بحثًا عن مسارات جديدة أكثر استقلالية.