سوريا التي عاشت في كنف نظام ديكتاتوري استبدادي أحكم البلاد بقبضة أمنية محكمة، على مدار أكثر من خمسة عقود من الزمن تغذى باللعب على الوتر الديني تارة والقومي والطائفيتارة أخرى. خلق لدى الرأي العام العالمي صورة ذهنية عن بلاد متماسكة متجانسة مستقرة, ولدى عموم الشعب السوري أنه مهدد من الخارج لكونه يحمل مشروعاً وفكرة يشكلان خطراً على المشاريع الاحتلالية التوسعية المستهدفة هوية وتاريخ وحضارة سوريا. هذه السياسة والمقاربة نجحتا إلى حد كبير بتشكيل حالة من التغييب للوعي عن الحقيقة والواقعية لدى شريحة واسعة من المجتمع السوري. وبنفس الوقت كانت هذه السياسية كفيلة بخلق حالة من الترهل والتمزيق والتشرذم لدى المجتمع السوري بالعموم، وأدّت إلى اتخاذ التكوينات الدينية والعرقية مواقف مسبقة حيال بعضها بعضاً بناء على مزعم وأوهام في غالبيتها تستند إلى الخرافات والأساطير ولا تمت إلى الحقيقة بصلة. هذه الصور الذهنية وعلى مدار عقود من الزمن شكلتتصوراً عن مجتمع يبدو من الخارج بهيئة مجتمعٍمتماسكٍ نتيجة للقبضة الأمنية المحكمة. حالة التماسك والاستقرار لم تكن سوى طبقة قشرية هشة تغطي جراحاً متقيحة وناراً ملتهبة عمادها ثقافة الكراهية والعنصرية.
وما إن حلّتْ عام 2011 حتى تساقطت كل تلك التابوهات المختلقة من الصور الذهنية عند أول صرخة طفل سوري ثار. تلك الصرخة التي كسرت جدار الخوف. حينها أدرك الشعب أنْ لا مقدسات ولا تابوهات مطلقة، وأنّ هناك حقيقة ثابتة هي أنّ هناك أزمة ومجتمعاَ ممزقاً. ولا أمان ما دام الأمن الإنساني مفقوداً. ومن هنا بدأت رحلة البحث عن الخلاص، مترافقةً مع حالة انعدام الثقة الممزوجة بكره وحقد من السوري حيال أخيه السوري. وفي الغالب كانت ذلك الشعور يفتقد إلى معرفة أسبابه. وهناك كان تأثير حالة اللاشعور واللاوعي هو المحرك الأساسي للسلوك وهي حالة غالباً ما تجد في اللاشعور ملعبها في الحروب والصراعات حيث غياب الرقابة والقانون وتدخل المصالح بتحويل الساحة إلى حالة من الفوضى والعبثية. تحقق من خلالهما المصالح والمآرب السياسية التي تخدم الجميع باستثناء الشعب والوطن.
رحلة البحث صدمت بعوائق عديدة منها عدم القدرة على تجاوز الحالة الذهنية التي رسخها نظام الاستبداد وعلى تنقية اللاشعور من رواسبها. حروب وصراعات أدّت إلى فقدان الأهل والأحبة وتهجيرهم كانت كفيلة بتغليب لغة العاطفة على العقل والمنطق. بل في بعض الأحيان كانت المعارضة وما تطرحه من أفكار وتصدره من مواقف تتفوق على النظام الاستبدادي، وكانت نسخة مشابهة عن النظام الديكتاتوري المستبد فكانت أشد ديكتاتورية واستبدادية حيال بعض التكوينات الدينية والعرقية. وفي حالات كهذه حيث يقع الفرد في شباك ويصبح من أشد الأمناء على تنفيذ تلك السياسة من دون إدراك ووعي. ثقافة لم يسهم في تشكلها.
أما العامل الآخر فهي الأطماع والمشاريع الإقليمية والدولية التي استثمرت وتغذت على سياسة النظام الديكتاتوري القائم على فرق تسد، بل وأسهمت في تنميتها وتطويرها مستغلة حالة التكنولوجية المتطورة.
تلاقي مصالح الدول مع بقاء نظام الأسد استمرّ مدةً أطول إذا ما قورن بفترات تساقط الأنظمة الأخرى على مستوى المنطقة. بما رافقها من عمليات تغيير ديمغرافي وتطهير عرقي عبر المقايضات التي تمت. وهذه كانت كفيلة بتعميق جراح السوريين وتسعير نار الكراهية والحقد والضغينة.
حيث تحولت مواقع التواصل الاجتماعي والإعلامي إلى ساحات حرب ضارية بين السوريين جميعهم، فكانوا ضحايا ثقافة ومنظومة فكرية فرضت عليهم. ناهيك عن الانتهاكات الممارسة على الأرض كقتل بدم بارد واصطفافات بين موالاة ومعارضة أو القتل لمصلحة مشاريع إقليمية وأجندات شخصية ضيقة ضد الأخر مناهضة لتلك لمشاريع.
وما أن حلّ 8 ديسمبر\كانون الأول حتى عمّ الفرح بين السوريين بمختلف الانتماءات الفكرية والدينية والعرقية والثقافية مبشرين بميلاد جديد. ولكن سرعان ما تحولت تلك البهجة إلى مشاعر مختلطة بين الفرح والقلق والحذر من مجهول تشوبه الضبابية.
اليوم يوجد نظام غائب جسداً لكنه حاضر بقوة في الوجدان والعقل الباطني. هذا الحضور مسجّل بكل تفصيلة وكل ثانية. إذ سرعان ما تحولت ساحات الاحتفال بالنصر المظفر إلى ساحات إعدامات ميدانية تحت بند حالات فردية وثأر للشعب السوري من جلاديه أو من تسبب في معاناة. لكنها في الحقيقة هي ثقافة جني ثمار لثقافة كان قد رسخها المستبد على مدار عقود من الزمن. ومن جهة أخرى نابعة من الايديولوجيات للفصائل الأجنبية الجهادية الإسلاموية المتطرفة العابرة للحدود. هنا لا أتحدث عن استحقاق أو عدمه لما يلاقيه الفرد من ضرب أو قتل من طرق المحاسبة إنما عن الطريقة التي تتم بها المحاسبة وتفتقد إلى أدنى المعايير القانونية والحضارية.
بقاء الوضع على ما هو عليه في سورية يعني أنها مقدمة على حرب أهلية حتمية. وسورية على كافة الصعد لا تتحمل وزر حرب أخرى. حيث كانت أربعة عشر عاماً من الأزمة كفيلة باستنزافها على كافة المستويات من دون استثناء. سنوات الحرب جاءت لتزيد الطين بلة حيث كانت البلاد تعاني في ظل الفساد من بنى متهالكة تفتقر إلى أدنى معايير البناء والتنمية إذا ما قرنت بالدول المتقدمة.
سوريا, اليوم أمام مرحلة تاريخية مفصلية تتطلب من الجميع: سوريين ومجتمعاً دولياً معاً أن يعملوا على إيقاف نزيف الدمار وسفك الدماء وقفة أخلاقومسؤولية عبر إطلاق مشروع مبادرة مصالحة وطنية. عمادها الأخوة والتسامح. وهذه الثقافة ليست بدخيلة ولا غريبة عن القيم المجتمعية السورية. تاريخ سوريا حافل بالمصالحات فعند حدوث أزمة أو كارثة أو مشكلة بين شخصين أو عائلتين أو عشيرتين كان يتدخل الوجهاء ويتم تجاوزها على مبدأ العلاقة الديالكتيكية الجميع يتنازل + الجميع يصفح = الجميع كسبان. اليوم يتطلب الوضع مصالحة وطنية أشمل وأكبر. إنّه استحقاقٌ وطنيٌّ إنسانيٌّ كبير.
اليوم يُتطلَّب إعلاء المصلحة الوطنية على جميع المصالح الأخرى لأنها الأكثر استراتيجية ونجاعة لمصلحة الشعب السوري.
هناك تجارب عظيمة لشعوب حققت تنمية ونماء كتجربتي راوندا وجنوب أفريقيا. يمكن استخلاص دورس وعبر منها. وهذا يتطلب من المجتمع المدني السوري والحكومة الوطنية السورية الشاملة لجميع أطياف ومكونات المجتمع السوري.ويعكس حقيقة وجوهر المجتمع السوري... يتطلّب إطلاق مبادرة تحت شعار سوريا لجميع السوريين... سوريا تسع الجميع. سوريا أغنى بتنوعها. سوريا أجمل بفسيفسائها.
حتى نتمكن للوصول إلى دولة مدنية ديمقراطية وتتحقق العدالة الاجتماعية عبر إقامة محاكمات عادلة للجناة وتعويض المتضريين. يتطلب منا إجراء دراسة معمقة للواقع السوري وأسباب ما جرىومآلاته حتى نتمكن من تجاوزها وتجفيف منابعها. الشعب السوري مثلما أبهر العالم بنجاحاته حول العالم وغير الموازين وقلب في المفاهيم والمصطلحات المتعلقة باللجوء والمضيف إلى مُسْهِمٍ في بناء البلاد المستضيفة. يمتلك من المؤهلات والقدرات الكثير لإعادة بناء وطنه بإرادته الحرة. سوريا اليوم بحاجة الى دعم ومساندة المجتمع الدولي وليست بحاجة الى وصاية وتدخل. على مدار أربعة عشر عاماً صدر القرار السوري وغيب الإرادة السورية الحرة، لذا حولوا سوريا من ساحة حرب أبناء للانتفاضة في وجه المستبد ينادون بالحرية إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. وساحة لتجميع كل التنظيمات الإسلاموية المتطرفة. حان الوقت لاحترام الإرادة السورية.لذا أدعموا وساندوا سوريا لتكون حمامة سلام واستقرار للسوريين والعالم وليس مصدر تهديد وقلق للمجتمع الدولي والإنسانية