قال الكاتب والمفكر حسن إسميك، إن السؤال عن الموت فيه من البداهة والوضوح نفس الذي فيه من الغموض. هو السؤال الذي حيّر البشرية وأرهق عقول الفلاسفة والمفكرين، إذ كيف يمكن للحي أن يعرف شيئاً عن الموت وهو لم يختبره ولا يمكن أن يختبره ما زال حياً.
وأشار إسميك، إلى أن الاقتراب الشديد من الموت لا يعطينا شيئاً عنه، بل غالباً ما يجعلنا نفهم الحياة أكثر من ذي قبل، فالموت كما نعيه وندركه بشكل عقلاني محض، ما هو إلا عملية انتقال كلي من مستوى ما في الوجود إلى مستوى آخر مختلف عنه في كل شيء، هو مكان لن يبلغه أحد منا إلا بالخروج نهائياً من الحياة، خروج لا عودة بعده بالمطلق.
وعبر إسميك، عن شعوره بالقهر في فراق والده الحاج عبدالله، مشيرا إلى أنه يكرر قول سبحان الحي الذي لا يموت، منذ أن مات أبيه صباح السبت الماضي تاركاً كل هذا الفراغ الذي يشعره كأنما يملأ الدنيا من أقصى مشرقها إلى أقصى مغربها، وتاركاً أيضاً ولده حسن يتيماً كأنه لم يكبر أبداً ولم يبلغ الرشد بعد، وأيّ رشد هذا الذي يمكن أن أتقوى به أمام فاجعة كهذه؟ مات أبي فسبحان الذي لا يموت، رب الحياة ورب الموت، ومالك الدنيا والآخرة، له ما أعطى وله ما أخذ، وليس لنا في الأمر أمامه من شيء.
وقال حسن إسميك، إنه أباه مات بعدما غالب المرض بضع سنوات حتى غلبه، فكانت هذه السنوات هي الأقسى عليّه وهو يرى من أحب يتألم وتذهب عنه قوة الحياة شيئاً فشيئاً، وهو أمامه عاجز لا يعزّينه في ألمه شيء، وقد بلغ بي القهر منتهاه فلا أستطيع ردّ المرض عنه، وعرفت كيف أنه لا يمكننا تجاوز ألم من نحب كما نتجاوز ألمنا ذاته.
سبحان قاهر عباده بالموت، وقد كنت أظن فيما سبق أن القهر هنا يقع على الميت نفسه، فلما مات أبي عرفت أن الحي هو المقهور أمام خسارة لا يعوضها مال ولا مكانة ولا أي إنجاز مهما بلغ شأنه.
مات أبي في يوم مولدي ذاته، ليصبح رحيله عبرة لي ستبقى كلما صادفتُ ذكرى هذا اليوم، إذ تجتمع مناسبة الولادة مع مناسبة الوفاة كوجهين متضادين لحقيقة الحياة بكل ما فيها من تغير وتبدل واجتماع لللأحوال.
ورغم إيماني بقضاء الله وقدره، وتسليمي بما يمضي من مشيئته، والتزامي بقول ما يرضي الحق سبحانه، إلا أن الفقد يبقى هو هو، كأس مرة أتجرعها فتكون فوق طاقتي وفوق احتمالي، كيف لا وقد خسرت الرجل الأحب إلى قلبي، وغاب عني نموذج الإنسان القوي الذي لم يعرف اليأس أو الهزيمة يوماً، وبقي لآخر ساعة راسخاً كجبل عظيم لم أر فيه ضعفاً رغم أنه قضى آخر حياته جليس المقعد بعدما بترت ساقه بسبب مرض السكر، فقعد جسده وأبت روحه إلا أن تبقى واقفة وشامخة إلى اللحظة الأخيرة.
ويلي من ذكرى اللحظة الأخيرة كيف انحفرت في خيالي ولن تزول، حين اسودّت الدنيا أمامي وتمنيت لو أن الأرض تنشق وتبتلعني كي لا أرى ما رأيت، وكي لا ينفطر قلبي على حبيبي وعلى شعلة النور التي أنارت لي طريق المحبة والسلام ومعاملة الناس بالحسنى حتى لو أساؤوا وأخطئوا، فالروح العظيمة وعاء لا ينضح إلا بما فيه، وقد كان أبي من أصحاب هذي الروح التي لا تبادي الناس إلا بالصفح والكرم والمساعدة والسير بالمعروف بين الجميع.
مات أبي الذي اختبر تقلّب الحياة من كل جهاتها، وأمضى عمره مكافحاً ومحارباً نبيلاً وافر العاطفة شديد الحنان كأنما قُدّت كتفاه من صخر وقُدّ قلبه من ندى، ووالله إن كل المواقف التي اختلفت فيها معه أيام صباي، واختار فيها الحزم والقسوة معي، لم تنقص من محبتي له وتعلق قلبي به. حتى لما بلغت مبلغ الكبار كبرت في كل شيء إلا في أن أبقى صغيره الذي ما زال يُسر بعطف الأب وحنانه في صورتهما الأولى.
مات أبي مطمئناً راضياً بقدر الله وتدبيره، مات بعيداً عن قلقيليا مسقط رأسه، والتي نزح منها عام 1967 ماشياً على قدميه قاصداً الأردن، ليكمل تعليمه ويتخرج من الجامعة/ قسم اللغة العربية، ويسافر إلى اليمن ثم ليبيا، ثم إلى السعودية التي عمل ومكث فيها طويلاً، فعاش حياته قوي الشكيمة ذا همة ومرؤة، مداوماً على عمله، شديد البأس معه نفسه، حازما مع أولاده حتى كنت أظن أن القساوة من طبعه، فلما كبرت أدركت أن قساوته معي لم تكن سوى شفيع القدوة التي أراد أن أقتديها به، والتي صنعت مني ما أنا عليه اليوم من نجاح وقدرة على مواجهة صعوبات الحياة وتحدياتها. ثم بدأ يتكشف لي المخفي عني من طباعه وما كان يتصف به من رقة في القلب وسعة في الصدر دفعتاه إلى أن لا يتأخر عن المساعدة وجبر الخواطر وإصلاح ذات البين بكل ما أمكنه واستطاع إليه من سُبُل.
سبحان الحي الذي لا يموت.. سبحان الذي لا يصيبه فقد ولا تعب، وأنا الفقير إليه وقد مررت في حياتي بالصعاب وتجرعت مر الخسارة وعانيت قساوة العيش ومعاندته، لكن لحظة فقد أبي أنستني كل ما مضى وأذاقتني مرارة خسارة لم أشعر بها من قبل، ورغم رغبتي الشديدة في التعبير عنها، إلا أني أشعر أن لا كلمات يمكن أن تعبر عن حقيقة هذا الشعور ومقداره، وأن لا سبيل للبوح مهما قلت ومهما حاولت. كان بكائي ساعة موته شديداً، وكان ضعفي كبيراً لم أكن أتخيل أن ينتابني لحظة سلّمته يداي للقبر كأنما سلّمت روحي لتُدفن بجانبه، وكان عقلي معطلاً إلا من التفكر في عبثية الحياة وسقوط قيمتها في عينيّ.
مات والدي فلا عزاء لي إلا في اثنتين: الأولى أنه بجوار رب كريم غفور رحيم هو خير من الدنيا وما فيها، أما الثانية فأنه عاش راضياً عن حياته رغم صعابها، وقد انتهت عنده كما كان يحب ويرضى، وحقق ما أراد تحقيقه قبل أن يغادرنا، فقد كان راغبا في أن يؤسس لأهل بلدته مجلساً يضم صغيرهم وكبيرهم، ويكون مكاناً لاجتماعهم في أفراحهم وأحزانهم وبقية مناسباتهم، وقد وفقه الله بذلك فاشترى الأرض وأقام البناء وأطلق عليه اسم مجلس قلقيليا. وكأنما أراد أن تستمر عادته بعد موته، فقد كان رحمه الله ذا مكانة اجتماعية بين أهل بلدته، لا يتأخر عنهم في أمر ولا تفتقده مناسباتهم ومجالسهم.
وكان في الوقت ذاته محبّا للاعتكاف يغلب عليه الزهد، ملتزما بصلاة المسجد ومداوماً على قراءة القرآن الذي جعله دستور حياتنا منذ صغرنا.