بالرغم من مرور السنوات إلا أن قصص الوباء الذي اجتاح العالم قديمًا لا تزال تنتشر ولا نزال نتداولها جيلا بعد جيل، الوباء الذي أطلق عليه الطاعون الأسود والذي تسبب في رعب لكثيرين حيث أدى هذا الوباء في حدود منتصف القرن الرابع عشر لوفاة نحو ثلث سكان القارة الأوروبية. وخلال الفترة المعاصرة، رجّحت أغلب المصادر وقوف بكتيريا اليرسينا الطاعونية (Yersinia pestis) التي اكتشفت عام 1894 من قبل العالم السويسري ألكسندر يرسين (Alexandre Yersin) وراء هذا المرض حيث انتشرت الأخيرة بمختلف أرجاء أوروبا خلال وقت وجيز متسببة في هذه الكارثة التي ظلت خالدة في أذهان الأجيال التالية.
وعلى حسب العديد من النصوص التاريخية، يرجّح عدد كبير من الخبراء فرضية ظهور الطاعون الأسود لأول مرة بالصين بسبب تراكم عدد من العوامل كانت أهمها التدخل العسكري المغولي بالصين خلال القرن الثالث عشر وانتشار المجاعة والظروف المعيشية السيئة والتغيرات المناخية بشرقي آسيا وانتشار الفئران التي نقلت معها البراغيث الحاملة للبكتيريا المسببة للطاعون نحو المدن المكتظة بالسكان، بناء على ذلك، حدّث المؤرخون عن انتشار الطاعون من شرقي آسيا نحو مناطق عديدة بفضل طريق الحرير والحركة التجارية والحملات العسكرية المغولية حيث نقل الجنود المغول المصابون بالمرض الطاعون أينما حلوا فشهدت عاصمتهم ساراي سقوط أعداد كبيرة من القتلى كما تناقل التجار الأوروبيون منتصف أربعينيات القرن الرابع عشر أخبارا مفزعة عن انتشار الجثث بمدن الهند وتفشي الوباء ببغداد ودمشق.
وبطريقة فريدة من نوعها صنّفها العديد من المؤرخين كأول عملية استخدام لسلاح بيولوجي، بلغ الطاعون أوروبا وانتشر بها بداية من العام 1346، فعقب خلاف أدى إلى اندلاع قتال بين تجار إيطاليين منتمين لجمهورية جنوة وآخرين مسلمين وأدى لسقوط قتلى، فرّ التجار الإيطاليون عبر البحر نحو ميناء مدينة كافا (Caffa)، المعروفة حاليا بفيودوسيا، بشبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود.
بالتزامن مع ذلك، تواجد القائد المغولي جاني باغ (Jani Beg)، المصنف كأحد خانات القبيلة الذهبية، على مقربة من مكان الحادثة فلاحق بجيوشه عبر البر تجار جنوة الفارين وفرض الحصار على مدينة كافا التي حصلت على الإمدادات من المدن الإيطالية عن طريق البحر. وأثناء تنقلهم، حمل جنود جاني باغ معهم وباء الطاعون حيث كان العديد منهم حاملا لهذا المرض حينها.
إلى ذلك، كان الحصار على كافا متقطعا واستمر أشهرا عديدة، وأملا في إضعاف المدينة وإجبارها على الاستسلام بعد انهيار معنويات جنودها، عمد المغول لقذف جثث موتاهم الذين توفوا بسبب الطاعون نحو كافا باستخدام المنجنيق حيث سعى جنود جاني باغ حينها لنشر الوباء بين سكانها ودفعهم لفتح أبوابها، ومع تواصل الحصار لنحو عام وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا من كلا الطرفين، فضّل المغول التراجع وهو ما سمح لسفن جنوة التجارية بمغادرة كافا والعودة أدراجها نحو إيطاليا.
عقب مغادرتها لكافا، نقلت سفن جنوة الطاعون معها حيث سجّل المرض تفشيه بين مختلف أفراد طواقمها، وفي طريقهم، نقل تجار جنوة الوباء أينما حلوا فنزلوا بمدينة القسطنطينية بالإمبراطورية البيزنطية خلال شهر مايو 1347 ونشروا الطاعون بها متسببين في وفاة أكثر من نصف سكانها، وبشهر أكتوبر من نفس السنة، توجّه عدد من هذه السفن لصقلية فنقلوا إليها الطاعون الذين سرعان ما امتد لمدينة ميسينا أيضا، عمد كثير من سكان صقلية للفرار من الطاعون فغادروا الجزيرة واتجهوا صوب بقية المدن الإيطالية فنشروا الوباء بها دون قصد. من جهة ثانية، لعبت حركة التجارة دورا كبيرا في نقل الطاعون من صقلية لتونس والتي انتقل المرض منها نحو المغرب الأقصى والأندلس.
وتزامنا مع تفشيه بإيطاليا وتوسعه نحو بيزا وجنوة والبندقية وبقية مدن الشمال، سجّل الطاعون ظهوره بمدينة مرسيليا الفرنسية خلال شهر نوفمبر 1347 حيث رست إحدى سفن جنوة التي تواجدت بكافا سابقا بموانئها فنشرت المرض بها وبمختلف أرجاء فرنسا لاحقا، واصل الطاعون تفشيه فبلغ بالعام 1348 إنجلترا والعديد من المناطق الأوروبية الأخرى مخلفا ملايين الموتى أينما حلّ.
اقرأ المزيد
"ارتفاع الحرارة والغثيان".. هل تتشابه أعراض كورونا مع تسمم الفسيخ؟
خلال 24 ساعة.. إسبانيا تسجل 348 حالة وفاة جديدة بفيروس كورونا