لم تكن سرقة الأرض واغتصاب الوطن كافيًا لهؤلاء، بل انتهكوا الحرمات دون النظر إلى أعراف أو مواثيق، اعتبروهم سلاحًا قويًا يجب عليهم تدميره واجهوهم في الميادين واعتقلوهم من المنازل في جوف الليل، لم يُفرق رصاصهم الطائش بين النساء والرجال.
"المرأة الفلسطينية" تلك التي لم تسلم من بطش أيادي الاحتلال التي استباحت الدم الفلسطيني، هناك بتلك الأرض شاء القدر أن تعيش نسائهم عيش الرجال في سبيل تحرير الأرض المغتصبة.
فما بين أسيرة تُعاني بداخل زنازينهم الغير آدمية، وشهيدة حاولت السير في طرقات البلدة بحرية فاعتبروها تُهمة تستوجب القتل، وفدائية وجدت أنّ العيش لا يُحتمل مادامت الأرض مغتصبة فأضحت بالثأر لدماء إخوانها، وأم فقدت صغيرتها فلم تيأس وقررت أن تستكمل المسير بدلًا عنها، تلك الصورة التي تعيشها نساء فلسطين كل يوم منذ سرقة الأرض.
في هذا الملف نُقدم حكايات عدة لنماذج كانت شرفًا للمرأة الفلسطينية في ظل احلال أرضهم.
فاطمة الزق.. أم رافقها صغيرها رحلة الأسر على مدى 3 سنوات
في العشرين من مايو عام 2007، خرجت الفلسطينية فاطمة الزق من منزلها في مدينة الشجاعية بقطاع غزة، عازمة على القيام بعملية استشهادية في حافلة تتبع قوات الاحتلال، بالقرب من "معبر إيريز" كانت تعلم وجهتها جيدًا اتخذت القرار وأسرعت لتنفيذه، لم تدري أنّ القدر يحمل لها خيار آخر، على مرمى بصرها كان الهدف، لم تُفكر في شيئ سوى صغارها التي تركتهم خلفها، لكنّها آمنت أنّ ما تفعله من أجلهم، قبل لحظات من تنفيذ المهمة كُشفت فاطمة ووقعت أسيرة في أيدي الجنود، لكن المفاجأة الكُبرى أنّ فاطمة لم تكن بمفردها فرافقها بطل صغير لم يأتي بعد للحياة.
"أنا بحب وطني من صغري بذرة نمت بقلبي، منذ الطفولة كنت بلاحق جنود الاحتلال بالحجارة"، كغيرها من أطفال فلسطين زُرع بداخلهم حب الوطن لكن كان الأمر مختلفًا بعض الشيئ بالنسبة لفاطمة، مما زاد من خوف والدها عليها، خاصة كونه تيقن أنّه من الممكن أن يفقد ابنته إمّا في الأسر أو برصاصة طائشة من جندي، وزاد الأمر سوءًا بعدما لاحقها أحد الجنود وهي بالصف الثالث الثانوي أثناء خروجها في مظاهرة، مما دفع والدها لمنعها من استكمال دراستها واتخاذ قرار زواجها ظنّا منه أنه يحميها، وقتها لم تتجاوز فاطمة الثمانية عشر من عمرها.
بدأت فاطمة في بناء حياة جديدة، كانت تشارك في مواساة الشهداء والأسرى، تعلمت التجويد وتلاوة القرآن، بالإضافة إلى الخياطة والتطريز، وأسست مركز تحفيظ للقرآن الكريم عام 2000، لكنّها لم تنسى قسمها الذي أقسمت به وهو تضميد جراح وطنها، المشوار الذي ينتهي بالشهادة، هنا قررت أن تختار إمّا الحياة برفقة أطفالها الثمانية أو الثأر لوطنها ودماء رفاقها الشهدداء، فلم تتردد فاطمة في اختيار الشهادة وبدأت الاستعداد للمهمة.
صباح يوم الأحد السابع والعشرين من مايو عام 2007، توجهت فاطمة إلى معبر إيرز أو كما يطلق عليه معبر بيت حانون، وبرقتها تصريح طبي اتخذته كتمويه كونها ذاهبة للمستشفى، وصلت فاطمة للمعبر بدأت عملية التفتيش حتى الآن هي آمنة فالحزام الناسف ستستلمه بعد المرور من المعبر من أجل إتمام المهمة وهي تفجير جنود في تل أبيب (تل الربيع).
لم تدري فاطمة أنّ استخبارات اليهود قد علمت هويتها والمهمة التي تقوم بها، تحفظوا عليها في المعبر وبدأ التحقيق معها، كل ذلك ولم تشعر فاطمة أنّ هناك جنينًا في أحشائها، بعد انتهاء التحقيق في االمعبر نقلوها إلى زنازين عسقلان، وأثناء إجرائها بعض الفحوصات الطبية سألتها الطبيبة هل هي حامل أم لا، ولأنّ فاطمة لم تكن تعلم شيئ عن حملها أخبرت الطبيبة بعدم حملها، لكن بعد فترة شعرت بشيئ غريب وطلبت من السجن إجراء فحوصات طبية جديدة وبعد معاناة ومراوغة من المجندات والجنود وافقوا على إجراء الفحوصات، لتخرج النتيجة إيجابية.
عاشت فاطمة ليالي من العذاب، أثناء عملية التحقيق معها في السجن، أسبوع كامل تم ربطها على أحد الكراسي دون أي إنسانية، منعوا عنها الطعام ، لم يخلوا جسدها من علامات أسلاك الكهرباء، حاولوا إجهاض جنينها، أصيبت بنزيف حاد وكادت أن تفقد الطفل.
بعد أيام قليلة نُقلت فاطمة إلى سجن النساء، وهناك بدأت رحلة معاناة جديدة أشد ألمًا وقسوة الزنازين أشبه بقبور لا أشعة ولا هواء بداخلها، تسكنها الحشرات وتملأها الرطوبة والعفونة في فصل الصيف، والبرد القاسي في فصل الشتاء، منعوا زيارة أهلها وأبنائها منعوا عنها الملابس، إلّا بعضا منها كانت تصلها عن طريق أهالي الأسيرات في الضفة، كل تلك المعاناة لم تكن شيئ مقابل حماية جنينها.
"عذبتني الطبيبة أثناء الولادة كانت تُردد إرهابية تلد إرهابي"، بعد رحلة معاناة قصيرة بمفردها، قدم رفيقها يوسف إلى الحياة ملأ الأرض بهجة، عاش المحنة معها بالسجن طاله الظلم والحرمان، منعوا عنه الحليب وعمره شهرين، لكن كانت الأم تُحاول أن تخفف عن رضيعها فقد أضاء لها عتمة السجن بعد نور الله، 3 سنوات قضاها يوسف بداخل زنزانة لا يشاهد سوى الأسيرات لا يعلم شيئ عن أبيه وإخوته، جاء إلى الدنيا في ظروف قاسية حاول الاعتياد عليها لكنّ فرج الله كان الأقرب.
فاطمة التي تبلغ من العمر حاليًا 51 عامًا، والتي تمّ تحرير أسرها قبل 10 سنوات هي وطفلها يوسف، كان قد حكم عليها بـ12 عامًا، لكن شاء القدر أن تقضي فاطمة بالسجن 3 سنوات فقط، فدخلت الفلسطينية ضمن صفقة الجندي شاليط.
قبل 4 أيام من الحرية وتحديدًا يوم الثلاثاء كانت فاطمة تجلس برفقة مندوبة الصليب الأحمر في ساحة السجن بالمردوان، قطع حديثهم صراخ وتكبير على أبواب الزنازين ونادت بعض الأسيرات بأنّ هناك صقة بين الاحتلال والمقاومة في غزة 20 أسيرة من بينهن أم بطفلها، ولم يكن بالمعتقل سوى فاطمة ويوسف، وتحققت الأمنية الحلم الذي كان بعيد المنال لكنّه أصبح حقيقة بفضل الله وكرمه، وفي يوم الجمعة الموافق الثاني من أكتوبر من عام 2009 كان اللقاء الأول بين يوسف وأسرته، اليوم، الذي عادت فيه فاطمة لأسرتها.
"نموت واقفين ولن نركع، نموت لأجل أن يحيا الدين والوطن" لا زالت فاطمة تسلك درب الجهاد لكن تلك المرة كان بطريقة مختلفة ألا وهي الحديث والدفاع عن الأسيرات.
"أمنية خلف القضبان".. "نورهان عواد" فتاة تبحث عن حلم المحاماة والاحتلال يرفض تحقيقه
تسير ببطئ مكبلة اليدين تجر قدماها على الأرض وكأنّ شيئًا أصابها، يلتف حولها الجنود من كل مكان، كانت هناك عيونًا تراقبها من بعيد انتفض قلبها فور رؤيتها، لم تتمالك نفسها فانهمرت الدموع على خديها، لم تعتقد يومًا أن تكون طفلتها بداخل هذا المكان، لكن لا بأس فجميعهم يدفعون ضريبة حب الوطن.
"نورهان عواد" فتاة فلسطينية صاحبة الـ20 ربيعًا، حكايتها بدأت وعمرها 16 عامًا، فأثناء سير نورهان برفقة ابنة عمتها الشهيدة هديل عواد، حاول عدد من جنود الاحتلال الاعتداء عليهن بشارع يافا في القدس، ومع قيام الفتاتان بالدفاع عن نفسهن سارع جنود الاحتلال بفتح النيران، شاء القدر أن ترتقي هديل شهيدة بينما تقبع نورهان بداخل سجونهم بتهمة لا أساس لها وهي"محاولة القيام بعملية طعن".
"قتلوا هديل وراحوا على نورهان وهيا مستسلمة وطخوها كمان 4 رصاصات"، بعدما أعدم جنود الاحتلال الصغيرة هديل لم تأخذهم شفقة برفيقتها نورهان، فتقدم أحدهم تجاهها وأطلق عليها رصاصة بقدمها واثنتان في ظهرها ثم كبلو يديها وحملوها إلى المستشفى، خضعت الفتاة الصغيرة إلى عملية جراحية لاستخراج الرصاصات، ومنعوا أي شخص من الاطمئنان عليها سوى محامي كلفته الأسرة بالدفاع عنها، الوحيد من استطاع الدخول عليها، وجدها مكبلة اليدين، ضعيفة ترقد على سرير متهالك لا تقوى على فعل أي شي، "حسب رواية والدتها لنا".
قضت نورهان عامًا كاملًا تتنقل بين سجن وآخر ومن محاكمة لأخرى، حتى جانت لحظة الحكم في يوم نفس إلقاء القبض عليها الثالث والعشرين من نوفمبر عام 2016، تمّ الحكم على الطفلة بـ13 عامًا ونص، و30 ألف شيكل غرامة، تمّ تخفيضهم إلى عشر سنوات بعدما قام أهلها بتقديم اعتراض على الحكم كونه حكم جائر وأنّ نورهان طفلة لم تتجاوز الـ16 من العمر، بعد حوالي عامين ونصف انتقلت نورهان إلى سجن الدمون، كانت عملية الانتقال من سجن لآخر لا تؤرق نورهان وحدها، بل أيضًا والدتها وأشقائها الذين وجدوا مشقة في كل مرة يُحاولون الوصول لفتاتهم، كان والدها بطلًا خفيًا لم يرحمه الاحتلال بأسره قبل سنوات وأسر صغيرته أيضًا، بل حرمه أيضًا من رؤيتها بدعوى "عدم حمل الهوية المقدسية".
كانت الفتاة تًرسل العديد من الرسائل تشتاق لوالدها كثيرًا، طلب من الاحتلال الإذن بزيارة ابنته لكنّهم في كل مرة كانوا يردون بالرفض، ومنذ 6 أشهر والفتاة تُرسل بأنّها تريد رؤية والدها لكن لاحول له ولا قوة.
تُعاني نورهان من انتهاكات عدة في السجن لا تتناول الطعام الذي يقدمونه تعيش على الأكل الخفيف من "الكانتين" أصيبت بأمراض عدة، فآخر رسالة كتبتها إلي والدتها طلبت أموال لإجراء فحص طبي لأنها تشعر بضعف نظرها، الفتاة لم تستسلم لحياة السجن وقررت استكمال طريقها فبدأت في المذاكرة بداخل الزنزانة حصلت على التوجيهي بمعدل 94%، لكن لم يشأ الاحتلال أن تستكمل نورهان الطريق فمنعهوها من دخول الجامعة ومنعوا دخول أي كتب إليها عملوا على قتل حلم طفلة، في السابق كانت تُريد نورهان أن تُصبح طبيبة لكن بعد أسرها قررت أن تدخل كلية الحقوق لتُصبح محامية تُدافع عن الأسرى الفلسطينيين القابعين وراء زنازين المحتل، وتحديدًا الأطفال، خاصة وأنّ منهم من يقضون أعمارهم هنا في تلك الغرفة المظلمة التي لا يوجد بها أية حياة، فلم يكفي الكيان المحتل اغتصاب الأرض لكنّهم أيضًا قرروا قتل الأحلام.
"هديل عواد".. طفلة قتلها الاحتلال بتهمة كاذبة "الثأر لشقيقها"
"في كل يوم كانت تمر من أمامهم يعلوا الكره ملامح وجهها الصغير، لم تنسى أخيها ورفيقها الذي سلب رصاصهم حياته، كانت صغيرة فى ذلك الوقت فقط 11 عام، لكنّها تتذكر المشهد جيدًا حينما أخبرهم أحدهم أنّ محمود أصيب برصاصة برأسة ليمكث بعدها 9 أشهر في المستشفى حتى استشهاده، لم يمر وقت طويل فقط حوالي 3 سنوات حتى لحقت الفتاة بأخيها، ذهبت إليه هي الأخرى بنفس الرصاصة التي تمكنت منه.
"فتاتان يسيران برفقة بعضهما يبدوا من ملابسهما أنّهما قد انتها للتو من المدرسة وفي طريق عودتهما للمنزل، بالقرب من إحدى محطات القطارات، استوقفهما بعض من رجال شرطة الاحتلال حاولوا تفتيشهما، تعالت الأصوات أخرجت إحداهن من حقيبتها مقصًا صغيرًا، حاولت الدفاع عن نفسها لكنّها لم تعلم أنّ الموت كان أقرب إليها، بادرها أحدهم برصاص من مسدسه سقطت على الأرض، حاولت أن تنظر لرفيقتها، لتجد الرصاص قد اخترق جسدها هي الأخرى، لم تكن تلك الصورة جزءًا من مشهد سينمائي أو حتى كلمات من قصة، لكنّها كانت حكاية الشهيدة "هديل عواد" الطفلة التي أعدمت على يد قوات الاحتلال أثناء محاولة الاعتداء عليها في شارع يافا بالقدس.
14 عامًا ونصف كان عمر "هديل" فتاة في الصف التاسع بالمدرسة كانت تحلم دائمًا بأن تصبح طبيبة حتى تستطع أن تداوي الجرحى الذين يصابون برصاص الاحتلال، بعدما فشل الأطباء في إنقاذ شقيقها الذي استشهد عام 2013، كانت صدمة هديل كبرى بعد رحيل شقيقها خاصة وأنّه كان الأقرب إليها كون أشقائها الآخرين متزوجين وهديل الإبنة الصغرى ومحمود كان الأخ الأكبر منها مباشرة، لذلك وفاته كانت مؤلمة للفتاة الصغيرة، حتى أقسمت أنّها في يوم ستثأر لمحمود، وللأسف اتخذ الاحتلال من تلك القصة ملاذًا آمنًا لكي يبرر عملية القتل التي فعلها جنوده، فاتهمت هديل بأنّها كانت تُحاول القيام بعملية طعن لذلك تمّ إطلاق النيران عليها مباشرة.
بالنسبة لرفيقتها التي كانت معها فهي ابنة خالها "نورهان عواد" والتي كتب لها القدر الحياة، لكن فهي تعيش بمثابة الموتى بداخل سجون الاحتلال الصهيوني بعدما حكم عليها بأكثر من عشر سنوات، كلا من نورهان وهديل كانا يمتلكان أحلامًا فهديل كانت من الفتيات المتفوقات لم ينخفض معدلها عن الـ97%، لكن لم يشأ القدر أن تستكمل الحياة هو فقتلت غدرًا على يد محتل لوطنها لترافق شقيقها محمود في حياة أخرى.
"سماح مبارك".. ضحية التهمة الملفقة في طريق العودة من المدرسة
" تحمل حقيبتها على ظهرتها، تسير هادئة مطمئنة تُردد الأذكار بصوت خافت كعادتها، انتهت من يوم دراسي شاق وهاهي الآن في طريق عودتها للمنزل، اقتربت من الحاجز، منتظرة دورها في التفتيش حتى تمر أخبرها أحد الجنود أن تكشف عن وجهها لكنّ الصغيرة رفضت وبشدة واعترضت على حديثه، انتزع جندي الاحتلال سلاحه وأطلق الرصاص على الطفلة.
"سماح مبارك" فتاة فلسطينية لم تتجاوز الـسادسة عشر من عمرها، شهيدة انضمت إلى ركب الشهيدات الفلسطينيات، الذين قتلوا بدم بارد على يد محتل آثم اغتصب أرضهم، في شهر يناير من العام الحالي استشهدت "سماح" أثناء عودتها من المدرسة برصاص الاحتلال الإسرائيلي عند حاجز الزعيّم شرقي القدس المحتلة، بعد رفضها الكشف عن وجهها من خلف النقاب، مما دفع جنود الاحتلال من إعدامها رميًا بالرصاص، بتهمة محاولة الثيام بعملية طعن في رواية كاذبة حاول الكيان الصهيوني تبرئة نفسه من تلك الجريمة.
حاولنا الوصول لأسرة الشهيدة سماح مبارك، لكن للأسف فبعد استشهادها قرر الأب الخروج بما تبقى من أبنائه وزوجته من البلاد، لكن كان لقائنا مع أحد أعمامها فتحي الخالدي، والذي تحدّث لنا عن صغيرتهم الشهيدة، في رواية عمها كانت سماح تعيش في غزة برفقة أسرتها أب وأم وخمس من الإخوة، لكن في آواخر عام 2018، قرر الأب ترك القطاع والتوجه إلى الصفة الغربية من أجل البحث عن مصدر رزق آخر ، فالحياة في قطاع غزة لم تعد ملائمة تحديدًا بعد عمليات الحصار التي يقوم بها المحتل، كان والدها يمتلك مطعمًا صغيرًا في القطاع، فقرر التنقل إلى مكان آخر وفتح مطعم جديد ولم يمكث في الضفة سوى شهرين فقط حتى استشهاد "سماح".
"سماح كانت صبية مميزة الأولى على المدرسة وحافظة للقرآن الكريم" الشهيدة كانت طالبة في المرحلة الثانوية، تحديدًا في الصف العاشر ، قبل عشر أيام من استشهادها عادت من أداء العمرة بعد الفوز بها في مسابقة للقرآن الكريم في الضفة الغربية، حيث أكملت حفظ القرآن الكريم فقررت وزارة الأوقاف الفلسطينية مكافآتها بعمرة، الصغيرة كانت مهذبة مطيعة حلمها أن تصبح طبيبة تُداوى الجرحى في وطنها.
بعد إطلاق الرصاص على الطفلة الصغيرة، حاول البعض من أهل البلدة الوصول إليها وإسعافها لكنّ جنود الاحتلال منعوهم بل منعوا أيضًا عربات الإسعاف لتظل الصغيرة تنزف دمائها الطاهرة حتى فاضت روحها لبارئها، لم يكفهم هذا الأمر بل استولوا على جثمانها الطاهر ورفضوا تسليمه لأهلها ولم يتسلم الأهل الجثمان إلّا بعد حوالي 3 أشهر وتحديدًا في شهر مارس من العام الحالي، بعد إجراءات عدة قام بها الأهل.
حاول الأب برفقة أبنائه الخروج من الحصار والقصف المستمر على القطاع خوفًا عليهم، ليستقبل خبر استشهاد ابنته بعد شهرين فقط من انتقالهم إلى محلهم الجديد، لم يتردد لحظة حتى فكر في الخروج من الوطن المنهوب بأكمله بما تبقى من صغاره فلن يتحمل فقدان عزيز عليه آخر، رحلت سماح وآخر ماتركته لأمها أن لاتحزن حال استشهادها فبالتأكيد ستنعم في مكان هو الأفضل لها.
دارين أبو عيشة.. فتاة الجنائز التي أبت الذل.. "والدتها": ابنتي خرجت دون وداع
لم يتبق سوى مسافة قليلة على الحاجز، كانت تسير بخطى ثابتة ترتل آيات القرآن بصوت خافت، رددت الشهادة عدة مرات كلما اقتربت من الجنود كانت ترتسم على جبينها بسمة انتصار، التفت حولها يمينًا ويسارًا وكأنها تُلقي نظرة الوداع على محبوبتها للمرة الآخيرة، وقفت ساكنة تنظر للسماء، الآن حانت اللحظة التي لطالما تمنتها منذ سنوات، انتظرت حتى اقتربوا منها لتفتيشها فأسرعت بالضغط على الزر، ليقف الزمن ثواني معدودة لم يظهر من الصورة سوى دخان كثيف وأثار أشلاء تناثرت في كل مكان، وجنود غطت الدماء ملامحهم، "تمت المهمة بنجاح".
"دارين محمد توفيق أبو عيشة" فتاة فلسطينية دفعت حياتها قبل سنوات من أجل تحرير وطنها، بعد حوالي ثمانية عشر عامًا على وفاة الفتاة الشابة حاولنا استعادة ذكراها عن طريق والدتها التي لم تتردد في الحديث عن صغيرتها، تلك التي فضلت الموت فداء وطنها بدلًا من العيش تحت وطأة احتلال آثم، "دارين" فتاة شابة لم يتجاوز عمرها الـ22 عامًا تخرجت من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة النجاح التابعة لمدينة نابلس في شمال الضفة الغربية، قامت "دارين" بعملية استشهادية استهدفت أحد حواجز الاحتلال الإسرائيلي قرب مدينة رام الله بالقدس.
بدا الحزن يعلو صوت الأم وكأنّها تذكرت تفاصيل اليوم، "كانت تخبرني دايمًا يا أمي خليني أنزل وياكي عملية لكن كنت بفكرها بتمزح معي" في يوم العملية خرجت دارين من منزلها للذهاب إلى الجامعة لم يكن هناك شئ غير المعتاد من الفتاة، لكن الأم كانت تُحاوطها مخاوف كبرى لا تدري لماذا، أخبرها قلبها أن هناك شئ سيحدث لطفلتها.
كانت "دارين" المفضلة لديها والمقربة لقلبها بخلاف أشقائها، تصرفات الفتاة العشرينية جعلتها مميزة لدى الجميع وليست والدتها فقط، فاعتادت الذهاب إلى أهالي الشهداء لمواساتهم، لم تترك جنازة شهيد إلّا وكانت من أوائل الحاضرين، ولشدة تعلقها بالوطن والشهداء كانت تتردد بين الحين والآخر على مقابرهم لتلاوة القرآن، حاولت الأم مرارًا أن تقنع ابنتها أن تتجنب بعض تلك الأمور خاصة وأنّها الاحتلال يترقب كل من يفعل ذلك ويقوم باعتقاله، لكن الفتاة كانت تُلقي الطمأنينة دائمًا في قلوبها، وبابتسامة خفيفة في كل مرة تُحدّثها "لا تخافي يا أمي".
بدأت فكرة القيام بعملية استشهادية تُراود "دارين" أثناء انتفاضة الأقصى، فمشاهد القتل والاعتقالات التي كان يقوم بها جنود الاحتلال تجاه أبناء وطنها جعل قلبها يحترق ألمًا على ما أحل بشعبها، كذلك سقوط بن خالها وأحد أصدقائها المقربين صاحب الـ17 ربيعًا شهيدًا، وقتها قررت "دارين" الثأر لكل شهيد سقط برصاص جندي محتل وبكل شاب يقبع بمعتقلاتهم، حاولت البحث كثيرًا عن من يُساعدها في تنفيذ تلك الفكرة التي خطرت ببالها، توجهت إلى أحد رجال المقاومة تحديدًا الكتلة الإسلامية، ويُدعى الشيخ الشهيد جمال منصور، والذي أخبر أبنائه فيما بعد" أنّ الفتاة ذهبت إليه وعرضت عليه أن تقوم بعملية استشهادية، لكنّه رفض هذا الطلب بشكل صارم وأخبرها أنّ تلك المهمة يقوم بها الشباب، لكن الدور الذي تقوم به النساء هو مساعدة المجاهدين، تربية الأبناء تربية صالحة وغرس حب الوطن بداخلهم، ورفض الشيخ الشهيد طلب "دارين" ، لكنّها لم تيأس وبدأت في البحث عن شخص آخر يوافقها على تنفيذ فكرتها، حتى وصلت لغايتها.
في السابع والعشرين من نوفمبر من عام 2002، هذا اليوم الذي وافق رابع أيام عيد الأضحى، خرجت دارين من البيت ولم تُودع والدتها، تصرفاتها كانت غريبة بعض الشيئ مما جعل الشك يتملك من الأم، فالليلة التي سبقت استشهادها أكثرت من الصلاة وقراءة القرآن حتى بزوغ الفجر بالرغم من تدينها لكن ماحدث هذا اليوم، على غير المعتاد، ظلت الأم تدعوا الله أن تعود ابنتها من الخارج بسلام حتى جائها خبر استشهادها بعد القيام بعملية تفجير حزام ناسف في حاجز تابع لقوات الاحتلال.
"مالك يا أمي إحنا 8 ليه مايروح اثنتين فدا الوطن" دارين الفتاة التاسعة وسط 8 شقيقات واثنان من الأشقاء، معظم حديثها مع الأم عن الشهادة وفي كل مرة كانت الأم تعنفها فقلبها كان يشتد خوفًا على الصغيرة التي لم تتردد أن تفعل ما آمنت به، رحلت دارين ولم تستطع والدتها حتى استلام جثمانها الذي رفض الاحتلال أن تودعه ولو للمرة الآخيرة، بل لم يكفهم ذلك بل حاولوا تشريد الأسرة بالكامل عقابًا لهم على مافعلته ابنتهم، هدموا منزلهم، منعوهم من السفر لسنوات وفي كل مرة كانت الأم تًحاول الخروج من المدينة كانت تفشل، وفي إحدى محاولاتها ألقي القبض عليها وظلت أسبوع كامل تتردد على مكتب المخابرات، حتى اليوم تواجه الأسرة صعوبة في التنقل خارج المدينة بالرغم من مرور 18 عامًا على رحيل ابنتهم، تلك الفتاة التي خلدت أسمى صورة لنضال المرأة الفلسطينة ضد الاحتلال الصهيوني.
"ميرفت مسعود".. ابنة الـ19 عامًا تثأر للأطفال والمحاصرين
"جلست أمام التلفاز تُتابع الأخبار، انتهت للتو من إعداد طعام الإفطار، تُراقب عقارب الساعة بين الحين والآخر في انتظار عودتها من الجامعة بدا عليها التوتر والقلق، تأخرت الفتاة على غير عادتها بدأ عقلها يفكر في الكثير من الأمور ماذا حدث لابنتها، قطع شرودها خبر عاجل على الشاشة " تنفيذ عملية انتحارية في مدينة بيت حانون وسقوط عدد من جنود الاحتلال ومنفذ العملية فتاة شابة"، هنا تيقنت الأم أنّ ابنتها هي بطلة هذا الخبر حتى دون أن يُخبرها أحد لكن قلبها لا يكذب أبدًا.
" ميرفت أمين محمد مسعود".. فتاة فلسطينة لم يتجاوز عمرها الـ19 عامًا تقطن في مخيم جباليا شكال قطاع غزة، في السادس من نوفمبر عام 2006، والموافق يوم الإثنين السادس من شوال قامت بعملية استشهادية في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، والتي كانت محاصرة من قبل جنود الاحتلال وقتها، "بنت سيلفي وصلت من الجامعة خبرتني إن ميرفت هي الاستشهادية مع إني كنت حاسه لكن كذبتها"، نبرة صوت متقطعة حاولت الأم الحديث كان الألم يعتصر قلبها على فقدان ابنتها وفرحتها الكبرى، تذكرت تفاصيل اليوم، في الصباح الباكر خرجت ميرفت إلى الجامعة كانت الأم في غرفتها شعرت بأحدهم يقترب من باب الغرفة تيقنت أنّها ميرفت همست الفتاة ببعض الكلمات التي لم تسمعها الأم جيدًا.
قبل لحظات من مغادرة ميرفت المنزل فتحت التلفاز، شاهدت أخبارًا عن قيام قوات الاحتلال باستهداف أاتوبيس مدرسة أطفال، صرخت ميرفت محاولة أن تسمعها أمها "لقد قتلوا الأطفال، استيقظي يا أمي، وانظري لما يحدث.."، صمتت الأم قليلا لتُعاود الحديث مرة ثانية، تتذكر ماحدث في هذا اليوم، بعد خروج ميرفت إلى الجامعة تأخرت على غير عادتها، أعدت الأم الطعام، وجلست تشاهد خبر عملية الاستشهاد وقلبها يعتصر ألمًا خوفًا على صغيرتها، دخلت ابنة سلفها من الجامعة تبكي أخبرتها أن ميرفت قامت بعملية استشهادية، لم تصدق الأم وعنفت الفتاة لكن لم يمر وقت طويل حتى وصل الخبر للجميع، انهارت الأم دوت صرخة كبرى بالمنزل، للتو فقدت ابنتها الكبرى وفرحة عمرها التي كانت تحلم دائمًا أن تحتضنها وهي عروس بفستانها، لكنّها الليلة ستزفها بكفنها إلى الجنة.
كانت ميرفت أول استشهادية بعد الانسحاب الصهيوني من القطاع قبل العملية بأكثر من عام، كان غرضها أن تثأر للشهداء الأطفال والمحاصرين في بلدة بيت حانون والتي كان الاحتلال يًحاصرها حينها،انضمت إلى سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، ويوم العملية حاولت الفتاة دخول البلدة وأثناء عملية التفتيش الواسعة التي كان يقوم بها جندي صهيوني، طلب من الفتاة أن تنزع الجاكت الذي كانت ترتديه، وعلى حين غفلة منه أسرعت الفتاة تجاه تجمع منهم وضغطت على زر التفجير.
تواصلت أسرة ميرفت مع بعضًا من أهل بلدة بيت حانون، أخبروهم أن يحافظوا على أشلاء ابنتهم حتى يذهبوا للحصول عليها، "النسوة في بيت حانون ماخلوا حدا يقرب من ميرفت حتى وصلنا"، حاول أهل البلدة رد الجميل فعملوا على حماية الجثمان منعوا الاحتلال من الوصول إليه، وفي اليوم الثاني من العملية حصلت أسرتها على جثمانها، دفنت الفتاة في مقبرة بيت لاهياـ يوم العزاء كانت الأم توزع الحلوى على روح ابنتها الشهيدة التي زفتها عروس للتو، فميرفت كانت توصيها دائمًا أنّها عندما تنال الشهادة يجب على والدتها أن توزع الحلوى"، فرحًا بمكانة ابنتها التي حصلت عليها، لم يختلف تعامل الاحتلال مع الأسرة عن غيرها من الأسر التي قدمت استشهاديين واستشهاديات، لم يهدموا المنزل لكنّه كان هدفًا في كل عملية قصف يقوم بها، لذا ففي كل مرة تبدأ عمليات الاحتلال كانت أسرة ميرفت تًغادر المنزل، خوفًا من استهدافهم.
"راضية أنا عليكِ يا حبيبتي يا ميرفت".. أنهت الأم الحديث وحققت لميرفت ما تمنته دائمًا أن تكون أمها راضية عنها حتى بعد مماتها.
"رزان النجار".. بطولة أحياها الاستشهاد
لم يمض على رحيلها الكثير ارتدت ملابسها وحملت البالطو الخاص بطفلتها، كانت آثار الدماء تغطيه نزلت إلى الميدان لمداواة الجرحى في محاولة منها لسلك درب فلذة كبدها الراحلة، التي قُتلت على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي في إحدى مسيرات العودة بغزة.
هزّ رحيل ابنها العالم بأكمله فالجميع تحدّث عن وفاة فتاة شابة تُدعى رزان النجار والتي كانت تابعة لأحد الأطقم الطبية المتواجدة في غزة أثناء مسيرات العودة، مهمة رزان كانت مداواة الجرحى الذين يستهدفون من قبل قوات الاحتلال لم تدري الفتاة العشرينية أنّ جسدها سيخترقه الرصاص الذي تخرجه يوميا من جسد الجرحى، البعض اعتقد أنّه بوفاة رزان انتهت مسيرتها لم يعلموا أنّ هناك شخصًا آخر حلّ محلها في الميدان حتى تيقن الجميع أنّ رزان لا تزال تحيا هنا.
"صابرين" السيدة التي اتخذت من اسمها مثالًا يُحتذى به والدة الشهيدة رزان النجار، الأم التي احتسبت صغيرتها شهيدة قررت أن تستكمل مسيرتها التي بدأتها الطفلة وأنهتها رصاصة طائشة من محتل.
"في مداواتي للجرحى بحس إن رزان حية وموجوده"، كانت الأم تتحدث بفخر عن طفلتها، لم تنكسر بوفاة الصغيرة بل أصرت أن تُحقق حلمها، فرزان كانت تتمنى دائمًا أن تتميز في مجال التمريض التي أحبته كثيرًا وبعد استشهادها أثناء عملها، قررت الأم أن ترتدي بالطو رزان وأن تنزل إلى المسيرات من أجل أن تحقق لفتاتها الحلم، في كل مرة كانت الأم تُداوي جريح كانت تشعر بروح رزان حولها في المكان، أخذت وعد على نفسها أن تجعل طفلتها سعيدة دائمًا الموت لن يستطيع التفرقة بينهما ففرزان موجوده في كل مرة تنزل والدتها إلى الساحة برفقة زملائها لإسعاف الجرحى من الفلسطينيين.
بعض المقربين منهم طلبوا من الأم أن تزيل الدماء من على البالطو التابع للصغيرة، لكنّها أصرت على رفض هذا الأمر "البالطو الطبي تبع رزان مانغسل من يوم وفاتها وماراح ينغسل أبدا"، لم تكن الأم وحدها من سارت على درب صغيرتها بل زرعت في أشقاء رزان الصغار أيضًا أن يسيروا على خطى شقيقتهم الراحلهم، تخبرهم دومًا أنّ الشهادة التي نالتها رزان هي الأسمى والأشرف، "رزان ماستشهددت رزان روحها موجودة في كل مكان".