قال الدكتور عمرو خالد، الداعية الإسلامي، إن غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، والتي سماها الله تعالى في القرآن "العُسرة" لما فيها من مشاق، كانت اختبارًا للمسلمين في الانضباط النفسي والوطني والإرادة للمسلمين، نظرًا لأن التوقيت كان في غاية الصعوبة، ودرجة الحرارة كانت مرتفعة جدًّا، والثمار على الشجر قد نضجت وحان قطافها، وكل صحابي له مشروعه الشخصي - حيث إنهم كانوا مزارعين - وكل واحد منهم بدأ يجهز نفسه ليجمع المحصول.
وأضاف في الحلقة الرابعة والعشرين من برنامجه الرمضاني "السيرة حياة"، أن جيش المسلمين بلغ 30 ألف مقاتل، وكان كل ثلاثة من الصحابة يتناوبون على ركوب بَعير واحد في المسير إلى "تبوك" التي تبعد ألف كيلو عن المدينة، وجاءه سبعة من الصحابة يريدون الجهاد معه، لكن لا أحد يملك الأدوات اللازمة للسفر والقتال، "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه".
وأشار إلى أنه في الوقت الذي تراجع فيه الرومان عن قتال المسلمين، لم يعلم الرسول بذلك"، مفسرًا عدم إخبار الله نبيه بذلك، حتى لا يقطع كل هذه المسافة ويتكبد هذه المعاناة الشديدة بأنه "اختبار في الانضباط النفسي والإرادة لـ 30 ألف، كانوا يحتاجون للعيش مدة طويلة مع النبي قبل موته ليعدهم، فكانت مدة هذه الغزوة 50 يومًا (15 ذهابًا / 15 عودة / و20 يوم إقامة بتبوك).
وذكر خالد أن بعض الصحابة كادوا يفقدون انضباطهم، مثل "أبوخيثمة"، الذي تأخر يومين بعد خروج الجيش، بينما تأخر أبو ذر، بعد أن أبطأ به بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره.
ولفت إلى أن "3 من الصحابة تخلفوا عن الغزوة، أشهرهم: كعب بن مالك، والقصة في صحيح البخاري، وفي سورة التوبة التي سُميت بذلك الاسم، وليس المقصود التوبة من الذنوب، بل من الاستهانة بصفه أساسية لأي حضارة أو شعب".
ونقل القصة التي رواها عن عبدالله بن كعب بن مالك فيقول: حدثني أبي بما حدث له في تبوك، يقول: "لم أتخلف عن رسول الله في غزوةٍ قط إلا هذه الغزوة"، "ولقد شهدت بيعة العقبة، فجاءت غزوة تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، (أي لا يقول صراحة إلى أين هو متوجه ليفاجئ العدو) إلا في غزوة تبوك".
وفسر خالد ذلك بأنه سيقابل عدوًّا كبيرًا، وهم الرومان، والمسافة طويلة، حتى يكون الصحابة مستعدين لذلك.
وأشار إلى أنه بعد أن تخلف "كعب" عن اللحاق بجيش المسلمين، وعاد الجيش إلى المدينة، يقول: "فأول ما نودي: عاد رسول الله، فأجمعت الصدق، وذهبت إلى النبي في المسجد فوجدت المنافقين – حوالي بضع وثمانين – سبقوني إلى رسولِ الله، كل منهم يعتذر ويحلفون له، والنبي يقبل منهم ويستغفر لهم، حتى رآني، فقال: تعال، وابتسم إليَّ ابتسامة الغضبان، فجلست بين يديه".
يروي خالد تفاصيل الحوار الذي دار بين النبي وكعب: "قال له النبي: "ما الذي خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ (ألم يكن عندك جمل؟)، فقلت: يا رسول الله، والله لو كنت عند غيرك من ملوك الدنيا لكذبت عليه، ولقد أُعطيت جدلاً، والله يا رسول الله لو قلت لك حديثًا يرضيك عني اليوم، يسخط عليَّ الله فيه، ليوشكن الله أن يُسخطك علي، ولئن قلتُ لك حديثَ ِصدق تجدُ عليَّ فيه – تغضب مني فيه – لكنه الحق أرجو فيه الرحمة من الله، يا رسول الله لم يكن لي عذر، ولم يكن أقوى ولا أيسر مني في هذه الغزوة، وكانت لي راحلتان، فقال النبي: أما هذا فقد صدق، لكنه قال له: قم حتى يقضي الله فيك".
وتابع خالد واصفًا حال كعب كما يروي الأخير: "هممت أن أرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم سألت: هل لقي ذلك غيري؟ نعم.. هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، فأجمعت على الصدق، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة عن كلامنا خمسين ليلة"، لا يحدثهم أحد كل هذه المدة، ولا يردون عليهم السلام".
في تلك الأثناء، تحدث خالد عن الحزن الذي اعترى "كعب"، كما يروي بنفسه، فيقول "بعد أن نهى رسول الله أهل المدينة عن كلامنا: "حتى تنكرت لي نفسي" تعبير شديد يصف فيه الحالة السيئة، والقرآن الكريم وصف هذه الحالة، "وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ".
ووصف خالد، العقاب بأنه كان شديدًا، لأن "النبي يريد بناء الإنسان، والانضباط الحياتي جزء من بناء الإنسان، فكان الجزاء من صنف العمل، وكانت المدة التي قاطعهم خلالها المسلمون هي نفس مدة الحرب".
وأشار خالد كما نقل عن كعب في روايته لما حدث: "فلما زاد همي، تعلقت على جدار مزرعة ابن عمي وناديت عليه: يا أبا قتادة، فلم يرد علي وهو يعمل أمامي في مزرعته، فقلت يا أبا قتادة: السلام عليكم، فلم يرد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أناشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يرد علي، فقلت: أقسمت عليك هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يرد علي، فقلت للمرة الثالثة: يا أبا قتادة أقسمت عليك هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيني، ونزلت من الجدار أبكي".
مع ذلك، لفت خالد إلى أن "كعب" رفض أن يترك وطنه، لما جاءته رسالة من ملك الغساسنة، وقد علم ما حدث له وهو شاعر عظيم، وقال له فيها: "بلغنا أن صاحبك – أي النبي– قد جفاك، فالحق بنا نواسيك، ويكون لك المنزلة عندنا".
ولاحظ خالد أنه على الرغم من الصراع النفسي بداخله، إلا أن "كعب" لم يبع وطنه ولا أهله، يقول: "فنظرت إلى الخطاب، فقلت: وهذا أيضًا من البلاء، فأخذتها ورميتها في التنور (النار)"، فيما وصفه بـأنه شكل آخر من الانضباط الوطني.
لم تقتصر العقوبة عند حد عدم الكلام مع "كعب"، كما ذكر خالد، نقلاً عنه: "فلما اكتملت أربعين ليلة جاءني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لي: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا ولكن لا تقربنّها، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك"، مشددًا على أن هذه خصوصية لا يملكها بين رجل وزوجته إلا رسول الله.
وأضاف: "اكتملت الخمسين ليلة، والعقوبة كانت رادعة، والرسالة وصلت، فنزلت الآيات في سورة التوبة، من الآية 117 وإلى الآية 121 : "لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ".
وذكر أن "هذه الآيات نزلت في صلاة الفجر، وكان "كعب بن مالك" يصلي الفجر على سطح منزله بسبب شدة همه وحزنه، فلما نزلت الآيات بالتوبة، انطلق رجلان، أحدهما ركب فرسًا، وآخر صعد فوق جبل، يقول كعب: "فقام الذي على الجبل فقال: يا كعب بن مالك أبشر، تاب الله عليك، فكان الصوت أسرع من الفرس". يقول كعب: " فكنت على سطح بيتي، فسجدت شكرًا لله عز وجل" فوصل إليه الرجل الذي ركب الفرس، يقول: "والله ما كان عندي إلا عباءة واحدة، فخلعتها وألبست البشير إياها، واستعرت عباءة من أبي قتادة، ثم انطلقت إلى المسجد، يتلقاني الناس في الطريق أفواجًا، يُسلّمون علي لِيهنك توبة الله عليك يا كعب، حتى دخلت المسجد فرأيت النبي، فابتسم إلي كأن وجهه قطعة من القمر، وكنا نعرف إذا ابتسم النبي وهو فرِح كأن وجهه كالقمر، فقال لي: تعال، فقدمت حتى جلست بين يديه، فنظر إليَّ وقال: أبشر يا كعب بخير يومٍ طلع عليك منذ ولدتك أمك، تاب الله عليك، فقلت: يا رسول الله، إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي بصدقة، فقال له النبي ـ أمسك عليك بعض مالك، وإن من توبتي ألا أُحدث يا رسول الله بعد اليوم إلا صدقًا فإنما نجاني الصدق"، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ).