قال المفكر حسن إسميك رئيس معهد السلام للدراسات والبحوث في الشرق الأوسط، إن الصراع العربي-الإسرائيلي، يعد أقدم الصراعات في المنطقة وأكثرها تعقيداً، والصراع الوحيد القائم على الانتماء الديني فقط، سواء الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي.
وأوضح إسميك، أنه في الماضي غير البعيد، كان المسلمون والمسيحيون واليهود يمارسون شعائرهم الدينية في المنطقة بحرية مُطلقة، تربط بينهم علاقات إنسانية مشتركة، وقيم وحاجات واحدة، وصداقة وعلاقات جوار، بل ونسب ومصاهرة في بعض الأحيان.
وأشار إسميك، إلى حكاية معروفة عن يتيمين سوريين عاشا في دمشق أواخر القرن التاسع عشر: حيث كان الأول مسلمٌ ضرير يدعى محمد، يحمل على ظهره قزما مسيحياً مشلولاً اسمه سمير، والذي كان بدوره يحذّره من الحفر والعوائق في الطريق، منوها بأن هذان الصديقان عاش معا في غرفة واحدة، وعملا في المكان نفسه، وكان اعتماد كل منهما على صاحبه هو ما ساعدهما على البقاء. لذلك لما توفي أحدهما لحق به الآخر بعد أسبوع واحد فقط، ليس بسبب احتياجه فحسب، بل وبسبب حزنه أيضا. وبعد مضي أكثر من قرن من الزمان، لا يزال الدمشقيون يتذكرون قصتهما كمثال يعتزون به عن التعايش السلمي.
وقال حسن إسميك، إن إمكانية التعايش التي وثقها التاريخ، وأبرزتها حكاية محمد وسمير، تسلط الضوء على تصرفات بعض السياسيين -العرب والإسرائيليين على حد سواء- ممن يزرعون الفُرقة باعتبارها وسيلة تكتيكية لتحقيق غايات سياسية.
وأكد إسميك، أنه لم يكن الساسة الإسرائيليون أفضل حالاً في تقصيرهم عن الدفع في اتجاه السلام أو إثبات رغبتهم فيه، إذ تواصل إسرائيل احتلال الأرض وسلب حقوق الفلسطينيين، مقدمة لهم، وللجماعات التي تحارب باسمهم، ذريعةً دائمةً لرفض السلام وفقدان الإيمان بإمكانية تحقيقه يوما ما. وآخر مثال على ذلك هو الإخلاء القسري والتهجير والاعتداء الإسرائيلي على السكان العرب الذين يعيشون في حي الشيخ جراح منذ عام 1948، وهو حيٌّ عربي يقع شمال البلدة القديمة في القدس. ولقد كادت "العاصفة النارية الإعلامية الدولية" الناتجة عن ذلك أن تقضي على السلام الذي عُقد حديثا بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
وعلاوة على ذلك، أدى هذا التصعيد في الأعمال العدائية من جانب إسرائيل إلى دفع دول عربية أخرى لتوخي مزيد من الحذر في الإقدام على الخطوة الأولى نحو السلام مع إسرائيل.
ورغم كل ذلك، ما زالت هناك فرصة لتحقيق التعايش السلمي في المنطقة؛ فمع أن معظم الناس يظنون أن السلام يبدأ بتوقيع معاهدة بين الأمم المتصارعة، إلا أن الحقيقة الأعمق هي أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يترسخ ويزدهر إلا إذا عادت الشعوب المتحاربة للتعايش مرة أخرى ضمن علاقات إنسانية طبيعية. وبمجرد قبول "العدو" على أنه جار وصديق محتمل، سينعقد السلام بصورة ضمنية قبل أن يوثقه توقيع الدول على الورق.
وحدد إسميك، أربعة عوامل توفّر الأساس للسلام إذا كانت هناك إرادة صادقة لتحقيقه: أولها هو الدين، كون أصل الديانات هو السلام، والديانات الثلاث -الإسلام والمسيحية واليهودية- تدعو صراحة إلى التسامح والعيش المشترك، وقد أثبت التاريخ أن السلام ممكن إذا تمثلنا القيم التي تُعلّمنا إياها أدياننا وعملنا بها في سلوكنا. لذلك يجب علينا فصل الدين عن السياسات التي تكرّسه للتمييز والعداء بغية تحقيق مصالح السياسيين أو فئات بعينها.
ونوه بأن العامل الثاني هو الثقافة والتبادل الثقافي، والذي وسعت اتفاقيات إبراهام للسلام بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل نطاقه وتفاعلاته. فالتبادل الثقافي يتيح لكل طرف التعرف على الآخر خارج المنظور المشوه الذي تقدمه السياسة. كما أنه يمكّننا من الوقوف على القواسم المشتركة التي تجمع بين بني البشر على صعيد إنساني واحد.
تابع: بينما العامل الثالث هو الصحوة بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي، تلك الثورات التي كشفت التطلعات الحقيقية للشعوب العربية، ألا وهي الأمن والرخاء والتطور. وبذلك عرّت حكومات كثيرة من أكاذيبها، وفندت ادعاءات السياسيين حول "العدو"، الأمر الذي أيقظ الشعوب، ليس فقط على الظلم والاستبداد الذي يختبئ وراء الشعارات السياسية الواهية، بل وأيضاً على إمكانية السلام بين دول المنطقة.
وذكر أن العامل الرابع هو الاقتصاد والازدهار المشترك؛ فالمملكة العربية السعودية مثلاً تقود جهوداً كبرى لتحقيق طفرة تنموية إقليمية من خلال رؤية 2030، وهي مشروع يتطلب نجاحه الاستقرار وتبادل المصالح في كلّ بُلدان المنطقة. ولذلك فإنني أدعو الأمير المتطلع للمستقبل بكل شجاعة محمد بن سلمان، والمملكة العربية السعودية بطبيعة الحال، للانضمام إلى اتفاقيات إبراهام على خطى ولي عهد الإمارات الشيخ محمد بن زايد.
وفي السياق ذاته، قال إنه من المؤكد أن الاستقرار الإقليمي هو أمر حيوي لتعافي سوريا وإعادة إعمارها. لقد سبق لسوريا أن قامت بمحاولات جادة لتحقيق السلام مع جيرانها، كما أن أصحاب القرار في دمشق يعرفون أن الوقت قد حان لاستئناف هذا المسار. إضافة إلى ذلك، يضغط المجتمع الدولي حاليًا على النظام الإيراني، ما يُضعف نفوذه السلبي في المنطقة، ويساعد على استعادة الاستقرار في لبنان وعودته إلى الحظيرة العربية، وهو ما يجب القيام به في أسرع وقت ممكن.
ودعا إسميك، كل الساسة، عرباً وإسرائيليين، إلى الكفّ عن صناعة العدو لخدمة سلطتهم واستمرارها، فالدول لا تحتاج إلى عدو لكي تبقى، بل التعايش السلمي هو ما يضمن لها البقاء والنمو والازدهار. كما أدعو الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى إلى زيادة دعمهم للتطور الاقتصادي والديمقراطي في الشرق الأوسط، في وقتٍ يتزايد فيه التدخل الروسي والصيني في المنطقة. ومما لا شك فيه أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب واجه انتقادات شديدة في ذلك الوقت، لكنه أظهر مع ذلك قيادة حقيقية أدت إلى اتفاقيات أبراهام.
ختاماً، أدعو كل من يعتنق المبادئ والقيم الإنسانية، ويحترمها قولاً وفعلاً، أن يترجم ذلك بالمشاركة في إعادة إعمار مهد الرسل والأنبياء!