لطالما شهدت العلاقات الجزائرية- المغربية محطات مختلفة من الخلافات والتوتر خلال العقود الماضية، بيد أن وتيرة هذه التجاذبات قد شهدت تصاعداً ملحوظاً خلال الأشهر الأخيرة، حتى بات البعض يطرح سيناريو حدوث تصادم عسكري بين الجانبين، خاصةً عندما انخرطت بعض الأطراف الخارجية في مضمون هذا الصراع، قبل أن تعلن الجزائر في الـ24 من أغسطس الجاري عن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب وسحب سفيرها من الرباط، معللةً هذه الخطوة بما وصفته بالأعمال العدائية من قبل الأخيرة، وهي الخطوة التي مثلت ذروة التصعيد بين الجانبين خلال الفترة الأخيرة، تأجيج المزيد من التوترات في منطقة تعاني بالفعل من مستوى مرتفع من الفوضى، بداية من الأزمة الليبية المعقدة، والتطورات الأخيرة في تونس، فضلاً عن العنف المستشري في منطقة الساحل الإفريقي والتنامي المضطرد في العنف الناجم عن المجموعات الإرهابية على تخوم البلدين.
وفي هذا الصدد نشر مركز "رع" للدراسات الاستراتيجية، تقريرًا للباحث السياسي عدنان موسى، بعنوان "إلى أين تتجه العلاقات بين الجزائر والمغرب"؟ ناقش- أبعاد ودلالات قطع العلاقات الجزائرية- المغربية، والتداعيات المحتملة لهذه الخطوة.
حيثيات القرار:
أعلن وزير الخارجية الجزائري “رمطان لعمامرة” في الـ 24 من أغسطس 2021 أن بلاده قد قررت قطع العلاقات الدبلوماسية مع جارتها المغرب وسحب سفيرها من الرباط ابتداءً من اليوم السابق عن هذا الإعلان، وقد أشار بيان الوزير الجزائري بأن المملكة المغربية لا تزال مستمرة فيما وصفه بـ”الأعمال غير الودية والعدائية ضد الجزائر”، ملمحاً بأن بلاده قد “تعرضت إلى حملة إعلانية واسعة ودنيئة من قبل المغرب”، كما فصل البيان الجزائري الأسباب التي دفعته لهذا القرار وذلك عبر سرد تطورات الأحداث منذ حرب 1963 بين البلدين.
في المقابل، جاء الرد المغربي سريعا عبر وزارة الشئون الخارجية المغربية والتي أصدرت بياناً أعربت خلاله عن “أسفها لهذا القرار غير المبرر، ورفضها بشكل قاطع للمبررات الزائفة والعبثية التي أنبنى عليها القرار وفقاً للبيان المغربي، والذي أكد بأن المملكة المغربية سوف تظل شريكاً صادقاً ومخلصاً للشعب الجزائري وستواصل العمل بحكمة ومسئولية من أجل تنمية علاقات مغاربية سليمة”.
دعوات عربية ودولية:
أثار القرار الصادر عن الجزائر بشأن قطع العلاقات مع المغرب العديد من ردود الأفعال العربية والدولية والتي طالبت في مجملها بضرورة التهدئة بين الجانبين، فقد أجرى وزير الخارجية المصري “سامح شكري” اتصالين هاتفين منفصلين بنظيريه الجزائري والمغربي تناول خلالهما حيثيات التطورات الأخيرة في علاقة الدولتين وسبل تعزيز التعاون وتجاوز الظروف الراهنة. فيما أعربت المملكة العربية السعودية عن أسفها لما آلت إليه تطورات العلاقات بين البلدين، مشيرة إلى تطلع المملكة إلى عودة العلاقات بين الدولتين في أقرب وقت ممكن، داعية إلى تغليب الحوار والدبلوماسية لإيجاد حلول للخلافات بينهما. كذلك، أعلنت الخارجية الإماراتية بأنها تأسف لقطع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر، مشيرةً إلى حرص أبو ظبي على متانة وقوة العلاقات العربية الإيجابية ووحدتها بما يحقق مصالح الشعوب الشقيقة. كما دعت الكويت الطرفين إلى تجاوز المسائل الخلافية لتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وهي الدعوة ذاتها التي طرحتها الخارجية الليبية.
من ناحية أخرى، دعت الجامعة العربية عبر أمينها العام “أحمد أبو الغيط” الجزائر والمغرب إلى ضبط النفس وتجنب التصعيد، وهو الأمر ذاته بالنسبة للبرلمان العربي الذي دعا الطرفين إلى تغليب علاقات الأخوة ومصالح الشعبين الشقيقين بما يفرض ضرورة ضبط النفس وتجنب التصعيد والانخراط في حوار بناء لتهدئة التوتر وحلحلة الملفات الخلافية، كما طالبت منظمة التعاون الإسلامي بضرورة اعتماد لغة الحوار لتسوية الملفات الخلافية وتغليب المصالح العليا للبلدين. كذا، أعرب الإتحاد الإفريقية عن أسفه من التطورات الأخيرة وقطع العلاقات بين المغرب والجزائر، مشيراً إلى استعداده لدعم أي مبادرة لاستئناف العلاقات، كما دعت المفوضية الإفريقية قادة البلدين إلى التوقف عن أي أعمال من شأنها التحريض على التصعيد. أما على المستوى الدولي، فقد دعت فرنسا كل من الجزائر والمغرب إلى العودة إلى الحوار لتعزيز الاستقرار في منطقة المغرب العربي.
خلافات قديمة:
ارتبطت الجزائر والمغرب بعلاقات طبيعية قبل الاستقلال في منتصف القرن الماضي، والتي تمخض عنها تنسيقا بين البلدين ضد القوى الاستعمارية، حيث كان البلدان مستعمرتين فرنسيتين (باستثناء بعض الأجزاء المغربية التي كانت تحت الاستعمار الأسباني) وبعد حصول المغرب على استقلالها في عام 1956، تلقت جبهة التحرير الوطني الجزائرية الدعم والتمويل من قبل المملكة المغربية الناشئة حديثاً، كما مثلت الأخيرة الملاذ لقادة الجبهة، غير أن هذه العلاقات ما لبثت أن دخلت سريعاً في خلافات حادة بسبب حادث اختطاف الطائرة المغربية في عام 1956، والتي كانت تنقل مسئولين جزائريين من الرباط لتونس، حيث اتهمت المغرب جارتها الجزائر بخطف الطائرة بالتعاون مع فرنسا، قبل أن تتنامي الخلافات بين الجانبين بشأن الحدود، وهي الخلافات التقليدية التي تعد أحد أبرز إفرازات الاستعمار الغربي، فقد اندلعت حرب “الرمال” بين الطرفين في عام 1963 بعدما قامت الرباط بغزو الأراضي الجزائرية المتاخمة للصحراء الغربية والتي كانت لا تزال تحت الهيمنة الأسبانية في هذا الوقت.
وفي عام 1973، تشكلت “الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب” (البوليساريو) في الصحراء الغربية لمكافحة الاستعمار الأسباني، مما دفع أسبانيا إلى توقيع اتفاقية مدريد في نوفمبر 1975 مع المغرب وموريتانيا لتسليمهما الصحراء الغربية (تضمن ذلك إعلان مبادئ خاص بالانسحاب الأسباني فضلاً عن عدة اتفاقيات مرتبطة بالتعاون الاقتصادي والصناعي والصيد)، إلا أن البوليساريو لم تعترف بهذه الاتفاقيات واقتسام أرضه بين البلدين، ورفعت السلاح مطالبةً بالانفصال عن الرباط ونواكشوط، مما دفع محكمة العدل الدولية إلى إصدار قرار يقضي بعد جواز فرض المغرب وموريتانيا لسيادتهما على الصحراء الغربية، بيد أن المغرب أصر على أحقيته بالسيادة على الإقليم، فيما أعلنت الجزائر دعمها لاستقلال الصحراء الغربية مما أدى إلى تصاعد حدة التوتر بين الجزائر والمغرب، وفي أكتوبر 1975 نظمت الرباط “المسيرة الخضراء” والتي تضمنت 350 ألف مواطن مغربي (يرافقهم نحو 20 ألف جندي) تحركت تجاه منطقة الصحراء لتعزيز التواجد المغربي بالمنطقة، قبل أن تعلن جبهة البوليساريو في عام 1976 تأسيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، وقد جاء هذا الإعلان من مقر الجبهة في الجزائر، حيث أعلنت الأخيرة اعترافها بالجمهورية الصحراوية، وبناء عليه، أعلنت المغرب في 1976 قطع العلاقات مع الجزائر، ولقد استمرت هذه القطيعة حتى عام 1988 عندما تم استئناف العلاقات بعد وساطة سعودية، بيد أن عودة العلاقات الطبيعية بين البلدين لم يعنى نهاية سياسة الشد والجذب التي هيمنت على واقع العلاقات بين الجارتين.
وفي عام 1979، أعلنت موريتانيا عن انسحابها من الأراضي الصحراوية (حوالي 266 ألف كيلومتر مربع)، معللةً ذلك بانشغالها بالأزمات الداخلية لديها، ومن ثم صارت منطقة الصحراء الغربية عبارة عن شقين، تسيطر المغرب على جزء منها يمثل حوالي 80% من إجمالي مساحة المنطقة (تتضمن المناطق الغنية بالفوسفات والثروة السمكية)، فيما تهيمن البوليساريو على الجزء الآخر بدعم من الجزائر.
ووفقاً لتقرير نشرته الـ”بي بي سي” BBC البريطانية بأن المغرب لجأت مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي إلى إقامة حاجز رملي حول المدن الصحراوية الكبرى والغنية بالفوسفات (خاصةً السمارة والعيون وبوجدور).
بالتالي، أستمر الصراع بين جبهة البوليساريو والمغرب بعد انسحاب موريتانيا من الأزمة في 1979، ولم يتوقف الصراع المسلح بين الجانبين حتى صدور قرار الأمم المتحدة في عام 1991 والخاص بوقف إطلاق النار، والذي تمخض عنه قيام البعثة الأممية “المينورسو” بمراقبة سريان وقف إطلاق النار، مع التعهد بتنظيم استفتاء على الاستقلال في العام التالي، وهو ما لم يحدث حتى الآن، مع فشل كافة محاولات تنظيمه، قبل أن تغادر بعثة حفظ السلام، وهو ما فتح المجال أمام احتمالية تجدد الصراع مرة أخرى، وهو ما تم بالفعل في نوفمبر 2020، عندما تجدد الصراعات المسلحة بين المغرب وقوات البوليساريو في منطقة الكركرات، حيث أعلنت الرباط بأن قواتها شرعت في إطلاق عملية في هذه المنطقة لإنشاء جدار عازل يؤمن عملية تدفق الأشخاص والبضائع بين المغرب وموريتانيا، رداً على ما وصفته بـ “استفزازات” جبهة البوليساريو، وهو ما اعتبرته الأخيرة خرقاً لقرار وقف إطلاق النار، مما أدى إلى عودة الاشتباكات مرة أخرى، إلا أن الرباط تمكنت من تعزيز تواجدها في المنطقة التي كانت ترتكز فيها البعثة الأممية، قبل أن تعلن الإدارة الأمريكية للرئيس السابق “دونالد ترامب” عن اعترافها بسيادة المغرب على الصحراء الغربية في ديسمبر الماضي، وهو ما أدى إلى تأجيج مزيد من التوتر والذي أنعكس بالضرورة على العلاقات المغربية – الجزائرية.
ملفات أخرى:
على الرغم من أن ملف الصحراء الغربية يُعد القضية الأهم في الصراع المغربي- الجزائري منذ حصول البلدين على استقلالهما، إلا أن ثمة ملفات خلافية أخرى بين الجانبين زادت من حدة التوتر بينهما، ويمكن تفنيد هذه الملفات على النحو التالي:
(١) ملف القبائل: تصاعد التوتر بين البلدين في يوليو الماضي، وذلك على خلفية إعلان الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة “عمر هلال” في اجتماع لحركة عدم الانحياز عما وصفه بـ”حق تقرير المصير لشعب القبائل” الأمازيغي في الجزائر حيث قدم السفير المغربي مقترحاً إلى الحركة يدعو خلالها بتصفية “الاستعمار من منطقة القبائل الجزائرية”، فيما اعتبرته الجزائر دعماً صريحاً من قبل الرباط لحركة استقلال منطقة القبائل “ماك” التي تصنفها الجزائر بأنها منظمة إرهابية، وهو ما دفع الجزائر إلى استدعاء سفيرها من الرباط للتشاور، كما أعلنت بأن تقرير المصير يتعلق بالأساس بمنطقة “الريف المغربي” ذات الأغلبية الأمازيغية، ويرتبط هذا الأمر أيضاً بالاتهامات التي توجهها الجزائر للرباط بدعم الجماعات التي تصنفها الأولى بأنها إرهابية، بداية من الجماعات المسلحة التي أدخلت الجزائر في فترة العشرية السوداء، والتي تدعي الجزائر بأن المغرب يقف وراء دعم هذه المجموعات، وصولاً إلى التنظيمات الراهنة على غرار حركة “ماك”، وكذلك حركة “رشاد”، في المقابل، وجهت المغرب اتهامات للجزائر بالتورط في تفجير فندق “أطلس أسني” بمراكش في عام 1994، مما أدى إلى قرار متبادل من الجانبين بإغلاق الحدود البرية فيما بينهما.
(٢) حرائق الغابات: تعرضت الجزائر خلال الأسابيع الأخيرة لموجة واسعة من الحرائق الضخمة التي اجتاحت شمال البلاد، وهو ما دفع الرئاسة الجزائرية إلى إصدار بيان في الـ18 من أغسطس الجاري قررت فيه إعادة النظر في علاقاتها بالرباط، بعدما أتهمتها الجزائر بالتورط في الحرائق التي شهدتها مؤخراً، وقد جاء هذا البيان في أعقاب الاجتماع الاستثنائي للمجلس الأعلى للأمن الجزائري، في محاولة لتقييم الأوضاع العامة في البلاد بعد الحرائق.
(٣) التقارب مع إسرائيل: مثل قرار المملكة المغربية بالتطبيع مع تل أبيب محدداً هاماً في تصاعد حدة التوتر مع الجزائر، حيث ترى الجزائر بأن المغرب اتخذت هذه الخطوة للحصول على اعتراف الولايات المتحدة بسيادتها على الصحراء الغربية، فضلاً عن تعزيز نفوذها في المنطقة على حساب جارتها، وفي هذا السياق، جاءت تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي “يائير لبيد” في 12 أغسطس الجاري خلال زيارته للمغرب بشأن قلق بلاده من التقارب الجزائري- الإيراني لتثير من جديد التوتر بين الجارتين، فيما اعتبرته الجزائر بـ”المؤامرة المغربية –الإسرائيلية” ضدها وأن الرباط قد منحت موطئ قدم لقوة عسكرية أجنبية في المنطقة المغاربية، مشيرةً إلى أنه منذ عام 1948 لم يصدر أي عضو في الحكومة الإسرائيلية أي رسائل عدائية من أراضي عربية تجاه دولة عربية أخرى.
(٤) ملف الحدود: على الرغم من أن ملف الخلافات الخاصة بالحدود بين البلدين يعد من أوائل القضايا الخلافية بين المغرب والجزائر، إلا أن هذا الملف قد شهد عدة تطورات خلال الفترة الأخيرة، فبعد فترة من إعلان المغرب عن قرارها بترسيم حدودها البحرية، أعلنت الجزائر وجبهة البوليساريو عن قرار ترسيم الحدود بينهما، وهي الخطوة التي فسرها البعض بأنها جاءت رداً على فتح معبر “الكركرات” بين المغرب وموريتانيا وهو ما قلص من نفوذ جبهة البوليساريو هناك، ومن ثم يمكن لقرار ترسيم الحدود بين الجبهة والجزائر في توفير مساحة حركة أمام البوليساريو.
(٥) أزمة برنامج التجسس “بيغاسوس”: حيث أعربت الخارجية الجزائرية عن قلقها إزاء ما نشرته بعض التقارير الغربية بشأن قيام المغرب باستخدام برنامج التجسس الإسرائيلي “بيغاسوس” ضد بعض المسئولين الجزائرين، وعلى الرغم من نفي الرباط لهذه الاتهامات إلا أن الجزائر عمدت إلى تصعيد لهجته خطابها ضد المغرب بعد نشر هذه التقارير.
الدور الخارجي:
يلعب السياق الإقليمي والدولي دوراً محورياً في تصاعد حدة التوتر الراهن بين المغرب والجزائر، فمن ناحية جاء القرار الأمريكي في نهاية العام الماضي بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية ليعيد تأجيج الملفات الخلافية مرة أخرى بعد فترة من الهدوء النسبي في العلاقات. ومن ناحية أخرى تلعب السياسات الأوروبية تجاه المنطقة المغاربية دوراً كبيراً في تعزيز الانقسام بين الرباط والجزائر، حيث تمثل الجارتين سوقاً رئيسية للبضائع الأوروبية، فضلاً عما تمثله من مورد هام للنفط والغاز، إضافة لكونهما بوابة رئيسية للقارة الإفريقية، ومن ثم تقتضي المصالح الأوروبية عدم وجود موقف مغاربي موحد، وذلك كي تستطيع القوى الأوروبية تعزيز نفوذها عبر استغلال حالة التوتر القائمة.
كذلك، مثل الدور الإسرائيلي المتنامي في المنطقة -والذي عززته اتفاقية التطبيع مع الرباط وقبول تل أبيب عضواً مراقباً في الإتحاد الإفريقي- خطوة خطيرة في إضفاء الطابع “الجماعي” على التوتر الثنائي بين المغرب والجزائر، حيث بدأ التنافس يأخذ شكل التحالفات المتنافسة، وربما يتجسد ذلك في التحركات التي يقوم بها الطرفين لتعزيز شبكة تحالفاته الإقليمية والدولية، الأمر الذي ربما يتمخض عنه مزيد من التعقيد على التوتر الراهن.
وربما يتمثل أحد ملامح هذه التحالفات على مستوى أدنى في الحراك الراهن في أروقة الإتحاد الإفريقي، فقد تمكنت جبهة البوليساريو من الانضمام إلى منظمة الوحدة الإفريقية (الإتحاد الإفريقي الآن) في عام 1984 بدعم من قبل الجزائر، وهو ما أدى إلى انسحاب المغرب من الإتحاد، قبل أن تقرر الرباط العودة في عام 2017 وهو ما أفرز درجة مرتفعة من الاستقطاب داخل المنظمة الإفريقية من خلال محاولة كل طرف حشد مزيد من التأيد لموقفه، ولعل عودة وزير الخارجية الجزائري المخضرم “رمطان لعمامرة” (والمعروف بعلاقاته المتشعبة في القارة) لمنصبه مرة أخرى على رأس الخارجية الجزائرية يمكن تفسيره في هذا السياق.
التداعيات المحتملة:
مثلت التطورات الأخيرة في علاقة المغرب والجزائر نقطة فاصلة في السياق الراهن الذي يهيمن على منطقة شمال إفريقيا، والتي تعاني من تصاعد كبير في مستوى العنف والفوضى، وبالتالي يبدو أن قرار الجزائر بقطع العلاقات مع المغرب سيكون له العديد من التداعيات على البلدين وعلى السياق الإقليمي ككل.
فمن ناحية، هناك شكوك بشأن مسارات ملف أنبوب الغاز الذي ينتقل من الحقول الجزائرية إلى أوروبا مروراً بالأراضي المغربية، خاصةً وأن هذا الاتفاق يفترض أن ينتهي في أكتوبر المقبل، وفي إطار العوائد التي تجنيها الرباط من مرور هذه الأنابيب عبر أرضها، يمكن أن يمثل هذا الملف أحد الأوراق التي ستضغط بها الجزائر على المغرب.
لكن، ترجح غالبية التقديرات بأن التوتر الراهن بين البلدين لن يؤثر كثيراً على الجانب الاقتصادي، خاصةً في ظل محدودية التبادل التجاري بينهما، فوفقاً لوكالة سبوتنك الروسية فقد تراجعت الصادرات المغربية إلى الجزائر من 173 مليون دولار في عام 2018 إلى 133 مليون دولار في 2020 (تمثل نحو 0.5% من إجمالي الصادرات المغربية)، كذلك تراجعت الصادرات الجزائرية إلى المغرب في الفترة ذاتها من 742 مليون دولار إلى حوالي 433 مليون دولار (تمثل حوالي 2% من إجمالي الصادرات الجزائرية)، ومن ثم فحجم التبادل التجاري بين البلدين في المجمل يبدو محدوداً للغاية ومن ثم فالتداعيات الاقتصادية لا يتوقع أن تكون كبيرة على الجانبين، لكن يمكن أن تكون التداعيات الاقتصادية مؤثرة في إطار تفاعلات الأطراف الخارجية (خاصةً القوى الأوروبية) والتي ربما تسعى للاستفادة من هذه التصدعات لتعزيز نفوذها الاقتصادي في المنطقة المغاربية.
من ناحية أخرى، تبدو التداعيات الإقليمية أكثر ترجيحاً في ظل النمط الفوضوي الطاغي على المنطقة، فمن ناحية ربما ينعكس تصاعد التوتر بين الجانبين على الملفات الشائكة في المنطقة، خاصة الملف الليبي الذي يعاني بالفعل من جمود العملية السياسية واحتمالات فشل إجراء الانتخابات المقررة بنهاية العام الجاري، وفي هذا السياق ربما يؤدي التصعيد الراهن بين الجارتين المغربيتين إلى تأجيج الصراع والتوتر في الداخل الليبي من جديد، وهو الأمر ذاته بالنسبة لحالة تونس والأوضاع الهشة الراهنة هناك.
أيضاً، تشهد منطقة الساحل الإفريقي تصاعداً ملحوظاً في وتيرة العنف والعمليات الإرهابية في ظل حالة السيولة الراهنة والتي تفاقمت بعد القرار الفرنسي بتقليص تواجدها في المنطقة، ومن ثم لا يستبعد أن تنعكس هذه الأوضاع على منطقة شمال إفريقيا على غرار الجنوب الليبي، حيث يتوقع أن تحاول الجماعات الإرهابية إلى استغلال حالة التوتر الراهنة لتعزيز تواجدها في شمال إفريقيا وتوسيع نطاق تواجدها.
وبالتالي، يمكن الحديث عن ثلاث سيناريوهات رئيسية في ظل المعطيات الراهنة، يتمثل السيناريو الأول في استمرار التصعيد بين البلدين مع انخراط مزيد من الفواعل الأخرى في هذا الشأن، ويمكن هنا الحديث عن دور إيراني وتركي محتمل خلال الفترة المقبلة، فيما يشير السيناريو الثاني إلى احتمالات تفاقم حدة التوتر لدرجة الوصول إلى مرحلة الصدام العسكري، أما السيناريو الثالث فيتمثل بالأساس في إمكانية تدخل أطراف إقليمية أخرى في محاولة لعب دور الوساطة لتجنب التصعيد غير المحسوب بين الطرفين.
وفي النهاية، يبدو أن منطقة شمال إفريقيا مقبلة على مرحلة جديدة من تصاعد التوتر التي سيكون لها انعكاسات واسعة، لكن في المقابل هناك بعض التقارير ترجح احتمالية تدخل بعض الأطراف الإقليميين لمحاولة حلحلة الأزمة الراهنة بين الجزائر والمغرب، وذلك بعد مراجعة شاملة لأبعاد الملفات الخلافية بينهما، وفي هذا السياق ربما تلعب الملكة السعودية دوراً فاعلاً في هذا الشأن على غرار الدور الذي لعبته الرياض في عام 1988، كذلك، يمكن أن يكون لمصر دوراً محورياً في تسوية هذا الصراع عبر لعب دور الوسيط الحيادي القادر على التوصل إلى توافقات شاملة، ومن ثم فحتى وإن شهدت الفترة المقبلة مزيد من التصعيد الدبلوماسي والسياسي (والذي سيكون له إنعاكسات على الملفات الإقليمية)، إلا أن سيناريو الصدام العسكري يبدو مستبعداً.