الساعة الثانية بعد منتصف الليل، الظلام دامس، قطرات المياه تنهمر من السماء التي تشبعت بالغيوم، وعتمة الليل بلغت ذروتها، لحظات الصمت والسكون لا يقطعها سوى حركة طفل صغير بملابس اختفى لونها، يستعد لبدء رحلته المرعبة للعودة إلى المنزل.
الخطوة الأولى في طريق طويل يمتد لخمسة كيلو مترات، يبدأها الصغير بعد "فلنكات السكة الحديد" من واحد، حتى يصل إلى الرقم 100، ثم يعود من جديد، لا يعرف ماذا بعد المئة، يكرر ويكرر، حتى يمر أمام "المقابر"، فيتمكن الخوف منه، يقرأ المعوذتين، ويهرول مسرعًا، آملا أن يمر أمامها بسلام، ثم يعود من جديد إلى عد "الفلنكات مرة أخرى"، حتى ينتهى الطريق.
لحظات يتذكرها الآن الأسطى "إبراهيم العوضي"، ذلك الرجل الأربعيني، أزرق العينين قصير القامة، يرتدي بنطالًا اختلط نسيجه بالشحم والزيت، وفوقه "بالطو" لا يختلف حالا عن سابقه، يلتقط عدته ويبدأ عمله، "بإذن الله عشر دقايق وتكون خلصانه"، هكذا يخبر زبونه، وقد يستمر عمله لأيام.
يقف العوضي أمام ورشته الكائنة بإحدى قرى القليوبية، يحكي " أول ما اشتغلت كنت باخد ربع جنيه مصروف واتنين جنيه في الأسبوع، كنت أرجع الساعة 2 بليل، أعد فلنكات السكة الحديد من 1 لـ 100 وأرجع أعد تاني علشان مكنتش أعرف أعد بعد 100 إيه، وكنت باجي قدام المقابر أقرأ المعوذتين وأجري".
"العوضي" يبدأ في سرد قصته وتركه للمدرسة في 2 إعدادي، وتلك اللحظة التي بدأ فيها عمله في ورشة "ميكانيكا" يمتلكها خاله، بقرية نوى، في عام 87، وحتى 92، وعن تلك الفترة التي انطلق فيها للعمل في القاهرة بدلا من الأرياف."
"تركت المدرسة لأني كنت متوسط في التعليم، وخدت قراري، وأهلي وقفوا ضدي، بس أنا كنت اتعقدت من المدرسة، بعد أن ضربني ناظر المدرسة بالقلم أمام زملائي، فسبت المدرسة ومسمعتش كلام حد، وكل اخواتي متعلمين أختي الكبيرة مدرسة أولى لغة عربية، وأخين "دبلوم".
يتذكر العوضي تلك اللحظة، في تلك الليلة الظلماء، وذلك الشتاء قارس البرودة، وقت أن نام أثناء عمله، بورشة "نوى"، ويقول "في الشتاء كانت الناس متغطية بدفايات وبطاطين واحنا في الورشة اللي بينام الأسطى بيرمي عليه ميه ويضربه علشان يصحي يشتغل ولو معملش فينا كدا مكنش حد فينا اتعلم الصنعة علشان كنا كتير".
مسلسل اللحظات المؤلمة التي يعيشها الصغير لم ينتهى، فعندما حاول ركوب عربة "الخضار"، نهره وشتمه صاحب العربة، "سواق العربية كان بيشتمنى ويضربني علشان هدومي وسخة ومبدفعش أجرة علشان مش معايه، وفي اللحظة اللي كان بيزعقلي علشان لبسي وسخ كنت بحس بالخنقة والندم، علشان اللي في سنى في البيت مرتاحين وأنا راجع مشي والدنيا بتمطر عليا".
بعد تلك الفترة، بدأ "العوضي" رحلته، في القاهرة، وتحديدا في شارع رمسيس، ويتنقل بعدها من ورشة إلى أخرى، لا لشىء سوى أنه يبحث عن المكان الأقرب، لمحطة القطار حتى يحلق بقطار 9 وثلث ليلا، ينتقل من رمسيس إلى بين الكنائس، ثم إلى الضاهر، بعدها شارع الترعة، وأخيرا بموقف أحمد حلمي".
"ورشة خاصة"
وفي عام 94 قرر "العوضي" ترك العمل في القاهرة، واتجه للعمل بورشته الخاصة، يضيف"ومن وقتها وحتى الأن مش عارف أرخص الورشة ومعايا سجل تجاري وبطاقة ضريبية ولكن معرفتش اعمل رخصة علشان على الطريق العام".
ويحكي "اشتغل معايا في ورشتي 7 صنايعية فاتحين ورش وحتى اليوم بيرموا السجارة لو شافوني وصبيان كتير حوالي 60 صبي اشتغلو معايا، وفي فترة الأجازة كان بيشتغل معايا طلبة علشان يساعدوا أهلهم وكان بيجلي طلبة عايزين يسيبوا المدرسة كنت بتكلم معاهم علشان أقنعم يرجعوا المدرسة، وبعدين أضربهم وأقسى عليهم جامد علشان يرجعوا المدرسة وفعلا كتير منهم خاف ورجع المدرسة وعرف إنها أفضل من الورشة".
اللحظة الفارقة
في 2011، جاءت اللحظة الفارقة في حياتي، حينما تعرضت لسرقة أتوبيس "تويوتا كوستر 28 راكب"مني على الدائري عند نزلة الوراق، كنت قد دفعت مقدمته 220 ألف جنيه، وتبقى 300 ألف جنيه، أقساط، "الأتوبيس" قعد معايا 11 يوم بس واتسرق، "فضلت 5 سنين في مأساة كنت ببات في الورشة ليل ونهار لحد ما خلصت قسط الأتوبيس وفي الفترة اللي الأتوبيس اتاخد فيها اتعرضت لنصب كتير بيجيلي مكالمات الأتوبيس هيرجعلك بس تدفع 50 ألف وغيره لحد ما المبلغ وصل 170 ألف جنيه وطلع كله نصب".
"الأمنية"
ويختتم العوضي حديثه "معايا ولد وبنتين الكبير في أولى ثانوي وبنت في ثانية إعدادي والصغيرة في 3 ابتدائي كل اللي عايزة من الدنيا ربنا يكرمني وأعلمهم علشان ميشوفوش التعب اللي أنا شوفته في حياتي".