"كن في الحب كالشمس كن في الصداقة والأخوة كالنهر ، كن في ستر العيوب كالليل كن في التواضع كالتراب كن في الغضب كالمبت ، وأيا ما كنت من الخلائق إما أن تبدو كما أنت وإما أن تكون كما أنت"، في القرن الثالث عشر نزل على البلاد محتل عمل على تدمير المكتبات وحرق الكتب ومحاولة مسح ذاكرة التاريج، سمي بالغزو المغولي، في ذلك الوقت كان هناك فتى أنار التراث والعلم بمولده، إنّه محمد جلال الدين الرومي، والذي ولد في السابع عشر من ديسمبر من عام 1207 في مركز الثقافة بلخ.
ولد محمد جمال في منطقة خراسان التركستانية الواقعة داخل افغانستان الحالية تمامًا في قلب الغزو المغولي الذي وقع حينذاك، كان والده محمد بهاء الدين الملقب بسلطان العلماء فكان المرجع الوحيد للفتاوى الصعبة في بلاد خراسان، وكان لمواعظه ودروسة آثار قوية في بيئته، وكان أيضًا خليفة لنجم الدين مبرى أحد المتصوفين المعروفين في عصره.
أثناء الغزو المغولي للبلاد، حدث خلاف كبير بين المتصوفين والفلاسفة هذا الاختلاف أدى إلى وقوف بهاء الدين ولد في صف، وفيلسوف بلخ الشهير نجم الدين الرازي في صف آخر، ومن جانب آخر كانت السلطة السياسية منزعجة من الملتفين حوله، يقال أن بهاء الدين ولد قد تألم من هذه الظروف وقرر أن يترك بلخ ، حقا ترك سلطان العلماء بلده لغضبه على عالم آخر كبير ، لكن الحقيقة حسبما ذكرها عدد من الباحثين أن بهاء الدين ولد اضطر إلى هجر بلده بسبب غزو المغول، ولما قرر سلطان العلماء الهجرة من بلدة كان محمد جلال الدين في الخامسة من عمره، انطلق الركب نحو الكوفة رويدا رويدا، ثم إلى مكة ليؤدي مناسك الحج، ثم يواصل سيره توجه من مكة إلى المدينة فالقدس ومن هناك إلى الشام كان الهدف الوصول إلى ديار الروم، الأناضول تلك الديار التي أطلقت عليه فيما بعد لقب الرومي.
وخلال هذه الفترة كان بهاء الدين ولد، "سلطان العلماء" يعتني هو بتربية ولده محمد جلال الدين، محمد جلال الدين الذي كان سيرشد الكثيرين كان حينئذ مريد لوالده كان يتلقى منه العلوم الدينية والدنيوية.
استقرت الاسرة بقرمان بعد رحلة استمرت 13 عامًا، ليأتي علاء الدين كيكوباد حاكم الدولة السلجوقية حينما كانت تحكم الأناضول آنذاك، ليدعو بهاء إلى قونيه حينما سمع بشهرته، استقرا في مدرسة بائع الخيوط التي خصصها لهم علاء الدين، ظل الفتي هكذا زاهدين يتعلمون وينهلون فقد لسنوات حتى حانت اللحظة.
"نحن ارتحلنا.. فسلام على الباقين فليبقوا في سلام.. فلابد للمولود أن يموت، وإن كنت فريد عصرك والمشار إليه بالبنان ففي يوم ما ستغادر هذه الدنيا وترحل كما رحل من قبلك فردا فردا"، مات بهاء الدينة وترك ولدا صالحا مثل محمد جلال، ومؤلفا مثل المعارف، ولأول مرة يتعرف محمد جلال الدين على ألم الفراق الذي سيشعر به طول حياته، كان محمد جلال في الرابع والعشرين عندما توفى والده رغم علمه وفقهه بأن يحل محل والده كعالما وفقيها لكنه لم يرغب في ذلك .
رحلة جديدة تبدأ في حياة "الرومي" زبعد وفاة والده وهو تعرفه على المعلم الجديد بعد والده وكان "الترمذي" والذي لم يأتي اختياره محض الصدفة، فالصدف دائمًا هي عبارة عن تجليات للحكمة الإلهية، فقد وقه اختيار الترمذي لتعليم محمد جلال الدين من قبل والده السلطان بهاء الدين إذ كان يعرف أن ولده سيتلقى التجلي في حقيقة نفسه وافر من سعادة برهان الدين الترمذي لذلك كتب إليه وأعلمه بذلك .
وبالفعل جاء خليفة والده الترمذي إلى قونية وجلس "الرومي" أمام استاذه الذي حل محل ابيه باحترام وتجلي، وعلى الرغم من صغر سن محمد لكن "الترمذي" كان يعلم انه عالم وبرغم ذلك أرسله غلى حلب والشام لكي يتلقى المزيد من العلم وظل سبع سنين في الشام يتلقى علوم النحو والفقه والصرف.
بعد سنوات اكتفى الترمذي من تعليم "الرومي" وهنا قرر الرحيل وترك الفتي بمفرده ليذوف آلاف فراق معلمه الذي رحل عن قونية "تعالى تعالى تعالى واقترب كم ستسغرق هذه الرحلة مادمت أنا وانا نت نحن نور الحق ومرآة الحق إذا لماذا الشجار بيننا دائم"،
بدأ محمد جلال في السير على نهج والده، طلابه كانوا يزدادون يوما بعد يوم قد أصبح الرومي لبلاد الأناضول والمعلم لطلابه لكن عروجه في العالم المعنوي لم ينتهي بعد، مولانا جلال الدين الذي فقد والده وشيخه أصبح وحيدا لذلم فإن العروج كان يجب ان يكمل والوحشة يجب أن تذال.
لكن عاد من جديد في جوف الليل الترمذي إلى تلميذه،"فهناك صحبة كأنها السيف البطار، وكأنها زمهرير الشتاء في البساتين، والحقول وهناك صحبة كانها فصل الربيع منها العمران والدخل الذي لا يحصى ولا يعد والحزم وهو سوء الظن حتى تفر من السوء"، دخل الرومي وشيخه في انعزال تام عن الناس وظلوا هكذا لفترة كبيرة، حتى ازدادت الشكاوى وكثر اللوم حتى أّن البعض هددوا شمس الدين بالقتل، شمس الدين الذي اعتقد انه سببا لهذه الاحداث والتطورات قرر ان يغادر البلد وترك قونية في إحدى الليالي دون ان يعلم به احد، لم يكن شاهده عند قدوم قونية ولم يشاهده احد عند مغادرته.
كان فراقُ شمس هو الذي صنع من جلال الدين شاعرًا، شعره يتدفق في آناء الليل وأطراف النهار؛ إذ كان الفراق مؤلمًا، ترك آثارًا وجراحًا لا تندمل، وذلك لعجزه عن حماية شيخه، فقضى ساعات وليالي في البكاء والنواح، إلا أن الجراح كما قال عنها جلال الدين فيما بعد «هي المكان الذي منه يتسلل الضوء إلى داخلك». وعندما أتاه الخبر بأن شمسًا في دمشق، بدأ الرومي في نظم أشعار المحبة وإرسالها إلى دمشق، لعل شمس الدين يتأثر بمطالعة هذه الأشعار ويعود إلى قونية، فتتبدد أحزان جلال الدين، ويعود ممتلئًا بالنور والضياء، ومنذ ذلك اليوم بدأ في الإنشاد والتغريد.
«شيخي ومرادي، دائي ودوائي، أفشيتُ هذه الكلمة: هو شَمسي». *جلال الدين الرومي
نظم جلال الدين في فراق شمس الدين التبريزي آلاف الأبيات من الشعر الصادق.
أرسل جلال الدين ابنه، ولد سلطان، بصحبة 20 رجلًا من محبي مولانا إلى دمشق، ممتطين الجياد، ومكلفين بالبحثِ عن شمس، وفي عام 644 هـ، قبل شمس الدين دعوة سلطان ولد، وعاد معهم إلى قونية، إلا أن عودته قد أثارت ثورة العوام وأهل العصبيّة مرةً أخرى، فاضطر شمس هذه المرة إلى ترك قونية دون رجعة، ودون أن يعلم أحدًا إلى أين ذهب، وما مصيره، قيل أنّ أهل التعصب قتوله وقيل أن تلاميذ الرومي هم من قتلوه، وأشاع أن ابنا من أبناء الرومي من قتله، لكن لم تثبت الحقيقة وشد جلال الدين الرحال باحثًا عنه في دمشق ولم يعثر له على أثر.
اختفى الشيخ والمعلم وظل جلال الرومي ينهل على العامة كلماته التي كانت تثلج صدورهم وتدخل الشمس لقلوبهم.