ألقى الوزير اللبناني جبران باسيل كلمته في الاجتماع الطارئ للجامعة العربية بخصوص العملية التركية "نبع السلام" بشمال سوريا.
وكانت كلمته كما يلي:
أصحاب المعالي،
سيداتي سادتي،
لا نجتمع اليوم ضد تركيا... نجتمع اليوم من أجل سوريا، في غياب سوريا. نجتمع من أجلِها ونُجمع من أجلِها... ولكن نُغّيبها فقط من أجل أن تكون غائبة.
ألم يحن الوقت بعد لعودة سوريا الى حضن الجامعة العربية؟ ألم يحن الوقت بعد لوقف حمام الدم والإرهاب، وموج النزوح واللجوء؟ ألم يحن الوقت لعودة الإبن المُبعد والمُصالحة العربية-العربية؟
أم علينا إنتظار الأضواء الخضراء من كل حدب وصوب؟ إلا الضوء العربي الذي عليه اليوم أن يضيء مشعشعاً كأول رد من الجامعة بوجه العدوان التركي على أراضِي سورية العربية، كي لا يضيع شمال سوريا كما ضاع الجولان السوري! وكي لا تتقاسمنا القوى، وتستفرد بنا الواحدة بعد الأخرى، حتى كأننا ما فهمنا بعد كيف أصابتنا كلنا، الدولة تلو الأخرى، بدءاً بلبنان وإنتهاءً بسوريا!
أصحاب المعالي،
شُرِد الشعب السوري، وهُجِر من منازله وتناثر في العالم كلِه لاجئاً ونازحاً يبحث عن الأمن والأمان، وتدخلت دول العالم كلِه في هذا الصراع، ودفعت دولاً عربية كلبنان والأردن والعراق أثماناً باهظة إقتصادية وإجتماعية وأمنية، في ظل تورطٍ عربي وتدخلٍ أوروبي وتواطىء أصحاب المصالح والأطماع، وغضُ نظرٍ البعض وإنسحاب البعض الآخر تاركاً الشعب السوري لمصيره، يواجه آلة القتل والنار، فُيقتل الأبرياء بإسم المناطق الآمنة، ويُحجز النازحون بإسم العودة الطوعية، وتدمر المدن بإسم الحل السياسي الذي يريده البعض أن يسبَق ألأمان والعودة وإعادة الإعمار.
اليوم قد يرى البعض أن مصلحة لبنان هي في تأييد العملية العسكرية التركية، حيث أنها تسعى الى تأمين منطقة آمنة يعود اليها اللاجئون السوريون الذين هربوا، مما سوف يمهِد بالمقابل لعودة النازحين السوريين في لبنان الى المناطق الآمنة التي تخضع للحكومة السورية؛ وقد يعتبر البعض الآخر أن مصلحة لبنان من جراء العملية هو منع قيام الكيان الكردي الذي يُهدد وحدة أراضي أربعة دول هي إيران وتركيا وسوريا والعراق؛ والذي إن قام، سيؤسس لقيام كيانات طائفية أخرى في المنطقة لن يسلَم منها لبنان مما يؤدي الى تقسيمِه وبالتالي إنتهاءِ سبب وجوده ونهايته تالياً.
لكنَّ موقف لبنان مبدئي سيادي ووطني عروبي، حيث لا يمكن الإعتداء على أرض عربية سورية أصيلة دون وقفةٍ منا. أما مصلحة لبنان الأكيدة فهي في إجماع عربي مبدئي يحمي كل دولة عربية، كبيرة كسوريا أو صغيرة كلبنان، من أي إعتداءٍ على أرضها أوشعبها أو كرامتها. وحده الحق ومبدأ العدالة والقانون الدولي هو الذي يعطي الحماية المستدامة.
وأني إذ أشكر جمهورية مصر العربية على دعوتها لهذا الإجتماع الطارىء والدول التي أيدتها، أطالبها وأطالبكم بتأييد الدعوة التي أطلقتها من على هذا المنبر بالذات منذ أكثر من سنة لعودة سوريا الى مقعدها الفارغ منذ ثماني سنوات.
زملائي الكرام،
نحن مطالبون اليوم بأكثر من إداناتٍ كلامية ومواقفَ إعلامية، نحن مدعوون الآن لأخذ موقف عربي وبالإجماع لعقد قمةٍ طارئة للجامعة وبكامل أعضائِها، تكرس المصالحة وتضع خطط المواجهة لما يخطط لنا، وكل ما هو أقل من ذلك لن يأخذه أحد جدياً ولن يعيره التركي إهتماماً ولن يردع غير العربي عن المسِ بنا.
فلا يجوز أن نقبل بعد اليوم أي إعتداء إسرائيلي أو تركي أو من أية جهة أتى على دولة عربية أو على شعب عربي، ولا يجوز أن نبقى مللاً وطوائف متناحرة، خائفين من بعضنا البعض ومتوجسين من الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان.
سؤالي هو: ما الذي يمنعنا اليوم من فتح قنوات الحوار مع بعضِنا ومع محيطِنا بحثاً عن سلام داخلي، أو فتح جبهات القتال بحثاً عن سلام خارجي؟ فالجغرافيا أقوى ديكتاتور لا يمكن تغيير ما تفرضه علينا، أما التاريخ فهو أفضل معّلم يمكن الإستفادة منه أو التغاضي عن دروسه، ولكن لا يمكن أن نضع رأسنا في الرمل ولا نرى في الجغرافيا ولا نقرأ في التاريخ. فالحوار الصريح هو الخيار الصحيح، دون أن يظنَ أحدٌ أن في التحاورِ ضَعفٌ وهزيمة، ودون أن يظنَ أحدٌ أنَ محادثاتِه السرية سوف تعطيه القوة والنصر، أو تقيه شرَ أعداءِ المنطقة الحقيقيين، ودونَ أن يظنَ أحدٌ أن بإمكانه منفرداً الوصول الى شاطىء الأمان. فإما أن نعمل معاً ونُنتج منطقة إستقرار وطمأنينة وإزدهار فنصل معاً، وإلا لن يصلَ أحدٌ، وسوف يتم الأستفراد بنا واحداً بعد الآخر وسينتج عن ذلك خراب عظيم... أعظم مما هو حاصل اليوم.
أصحاب المعالي،
مزيج خاص من المبدئية والواقعية هو الحل الأمثل لأزماتنا، فالمبدئية المطلقة تعطل الحلول الممكنة والواقعية المفرطة تلغي الحقوق المكتسبة. فكم واحدٌ طالبنا في الماضي والحاضر بالوقوف في وجه واقع تركيبتنا اللبنانية ورفضنا ذلك، عملاً بمبدأ تربينا عليه ويقضي بالحفاظ على الوحدة الوطنية على حساب أية أجندة خارجية، وكم واحدٍ قد عاتبنا وقاطعنا ورفض التعاطي معنا بسببِ موقفنا هذا، وإذ به اليوم يواجه نفس الواقعية ويتعرض لنفس السيناريو دون أن يحرك ساكناً وهذا حقه، دون أن نعاتبه أو نقاطعه أو نرفض التعاطي معه لمعرفتنا بظروفه وتقديرنا لواقعه وإحتراماً لإمكانياتِه.
فلنترك الماضي السيء وخلافاته وراءنا وننظر الى يومنا هذا حيث نحن مدعوون للعمل معاً، فنضم أصواتنا الى جانب سوريا، ونتخذ الإجراءات الرادعة بحق من ينتهك حرمة أوطاننا. إذ أن وحدة أي وطن عربي هي إلتزام مطلق من جانبنا، هي لازمة إستراتيجية بالنظر الى تداعيات أي تقسيم ديموغرافي تحت أي مسمى: منطقة عازلة أو منطقة آمنة أو شريط حامٍ أو وجود أجنبي مؤقت! وبالله عليكم قولوا لي متى لم يتحول أي وجود مؤقت على أرضٍ عربية الى وجود دائم؟ وما تمت إزالته إلا بمقاومة أصحاب الأرض!
هذا هو ردنا! هذا هو حقنا! هذا هو مفتاح إستعادة أراضٍ عربية مسلوبة وأوطان عربية ضائعة.
عاشت الدول العربية حرة، سيدة مستقلة.