"أمضت صغيراتي منذ بداية الحرب في بلادنا وأعمارهم لم تتجاوز السادسة كثيرًا من وقتهم خارج المنزل يلهون ويلعبون مع أبناء الحي، لم يهابوا أصوات الرصاص والقذائف فقد اعتادوا عليها، كنت أحاول منعهم أحيانًا من الخروج لكن مع إصرارهم أوافق، فلو علموا ما سيصيبهم فيما بعد لمكثوا في المنزل طوال حياتهم برغبتهم، بدلًا من إجبارهم على ذلك".. الوالد حسن هويدي.
سندس وفردوس حسن، توأمتان بلغتا من العمر 11 عامًا، كانا يقطنان في مدينة زليتن بالقرب من مصراته الليبية، مع بداية الحرب الليبية كان عمر الفتاتان حينها لم يتجاوز الـ6 أعوام، مكثا فترة في مأمن عن الخطر حتى ذلك اليوم، الذي سيظل عالق في أذهان الطفلتان، خاصة بعدما حوّل مجرى حياتهما للأبد.
انتهت سندس من واجباتها أخبرت والدتها أنها ستلهو برفقة شقيقتها خارج المنزل، حذرتهم الأم من الذهاب بعيدًا عن الحي، دقائق حتى بدأ القصف على المدينة، تلك المرة كان الوضع عنيفًا بعض الشئ، فمدينتهم لم يشتد النزاع بها مطلقًا فكانت الأكثر أمنًا بين مثيلاتها من مدن ليبيا، على حين غفلة من الصغيرتين ومع قصف الطائرات الغربية لصواريخها سقط إحداهم بالقرب من منزلهم في مصراته، شاء القدر أن تنجوا الطفلتان من هذا القصف، لكنّ تلك النجاة كانت مؤقتة، بعد أيام عادت الحياة لمجراها الطبيعي بالنسبة للفتيات، حتى بدأت ملامحهم يظهر عليها أعراض غريبة، وكأنّ جسدهم في طريقه للتشوه.
مع اشتداد النزاع بالبلاد، لم يستطع الأب الخروج من مدينته لعرضهم على طبيب ماهر، فاضطر للجوء إلى أحد الأطباء بالمدينة والذي أخبره بأن حالة بناته ليست خطيرة، لكنّه اكتشف فيما بعد أنّ هذا الطبيب كان مخادعًا، واضطر للكذب بعدما هددته الميليشيات المسلحة بالقتل حال تشخيصه لحالات الأطفال التي تأتي إليه بأنّها مصابة نتيجة صواريخهم
كانت حالة الصغيرات تسوء يومًا بعد يوم، ومع محاولات الأب لإنقاذ طفلتيه، نجح بعد معاناة في الخروج إلى مدينة طرابلس لعرضهم على طبيب هناك، والذي أخبره بأنّ طفلتيه أصبن بسرطان الجلد نتيجة تعرضهم لقنابل اليورانيوم، تبدّل حال الأب كثيرًا وهو يرى صغيرتيه اللتان كانتا أشبه بملكات الجمال ينال منهن المرض، سندس كانت حالتها أشد خطرا من فردوس كونها تعرضت بشكل كبير لليورانيوم ، فبعد القصف بأيام قليلة استمرت سندس في الخروج و اللعب خارج المنزل، بخلاف فردوس التي فضلت قضاء معظم الوقت بالمنزل، لذا كانت إصابتها بسرطان الجلد أقل حدة من توأمتها.
ومع اشتداد المرض أمر الطبيب بطرابلس الأب المكلوم، بإجراء عمليات جراحية للفتيات والتي لم تكن متوفرة في ليبيا، مما دفعه للبحث عن مكان آخر حتى قرر السفر إلى تونس لإجراء العملية، سافر الأب برفقة فتياته لإجراء العملية، وبعد فترة قضوها بتونس، عادوا لبداية علاج جديد في طرابلس، لكن مع صعوبة توفر الإمكانيات اللازمة وخطورة الحالات فقد الوالد الأمل في شفاء طفلتيه، خاصة بعدما أجرت سندس لما يقرب من 30 عملية وفردوس عملية واحدة، فكانت سندس تخضع كل 3 أشهر عملية مختلفة عن سابقتها، بالرغم من أنّ عمرها ووزنها لم يتحملوا كآفة تلك العمليات، وبعد محاولات عدة فشل الأطباء فيما بعد، بل رفضوا إجراء عمليات جراحية أخرى لها، و كانت النتيجة فقد الصغيرة صاحبة الـ11 عاما عيناها اليسرى وتم إنقاذ اليمنى بصعوبة.
" احنا ما بينفع نخرج في الشمس، لإننا لو خرجنا بنموت" وبعد سنوات قضتها الفتاتان ووالدهم بالمستشفيات على أمل الشفا، خاصة بعدما تشوه وجههما بالكامل، عرض بعض أهل الخير على والدهم الذهاب إلى مصر، لعرضهم على عدد من الأطباء وقرروا تحمل تكاليف السفر بالكامل، وبالفعل جاء الأب وبناته منذ نحو عام إلى مصر ومكث بمدينة الإسكندرية، لكنّ الأطباء هنا حذروه من أن ترى الشمس صغاره، فمصابي سرطان الجلد ممنوعين من التعرض للشمس، وإلّا من الممكن أن يحترق جسدهم، الأمر الذي دفع الفتيات إلى الخروج ليلا فقط، فلا يرون الشارع مطلقا في وضح النهار.
كان لأطفال ليبيا أيضًا نصيبا من القتل والتشريد بسبب الحرب، أطفالا لا ذنب لهم كان حلمهم اللعب واللهو، باتوا يستيقظون على أصوات الرصاص وبراميل المتفجرات، دفعوا رصيد لعبهم ولهوهم خارج أسوار منزلهم سنوات من المرض وحياة أشبه بالموت.