كان والده ينتظر عودة شقيقه من خارج البلاد، جاءه اتصال هاتفي أخبره أنه قادم خلال أيام وعليهم أن يستقبلوه بالمطار، قرر الأب أن يذهب سريعًا لاستقبال شقيقه، إلّا أنّ أحدهم تشبث به ورفض ذهابه بدونه، ومع إصراره وافق الأب وحمل معه هذا الكائن الذي لم يكف عن البكاء حتى اطمأن أنّه سيسافر هو الآخر إلى المطار، وصل الضيف حملوا حقائبه وأثناء عودتهم إلى المنزل كان للقدر رأي آخر.
يسير ببطئ يحمل بيده الإثنان عكازين، جلس على كرسي الغرفة ووضعهم بجواره، صمت قليلا حتى قرر الحديث، عاد بالزمن لأكثر من 4 سنوات، كان صغيرًا لم يتجاوز الـ11 من عمره، يلعب كثيرًا يحب الجري يذهب هنا وهناك، لكن هذا اليوم، أفقده الحياة بالنسبة له فأصبح حبيس تلك الغرفة لا يخرج منها إلا للضرورة.
"أنا محمد أحمد عندي 15 سنة كان عمري 11 لما حصلتلي الحادثة" فأثناء عودة الفتى برفقة والده وعمه غفل السائق بالطريق وانحرفت سيارته فاشتعلت على الفور، توفى عمه في الحادث وأصيب والده لكنّ بالنسبة لمحمد فكان الوضع مختلفًا، فقد خرج بدون نصف جسده.
بعد الحادث بعدة أيام اكتشف محمد أن الجزء الأسفل من جسده لم يعد متواجد فقد قدماه الإثنتان، بالإضافة إلى وجود مشاكل عدة في فتحة الشرج، الأمر الذي أثر نفسيا على الطفل الصغير تحديدًا، كما أنّ المجتمع هو الآخر لم يرحم معاناته بسبب نظرة الكثيرين حوله له، في البداية كان الفتى يتأثر بحديث الناس، يجلسون حوله يتهامسون سرًا، هو يعلم جيدًا أنّه بطل حديثهم، الوضع كان بالغ الصعوبة في بادئ الأمر، لكن كان هناك بطلًا مجهولًا لولاه لما استكمل محمد المشوار، فطوال 4 سنوات كانت والدته هي السند الحقيقي له في رحلته الصعبة هونت عليه الكثير فهي لا تختلف كثيرًا عن العكازين الذي يستند عليهم محمد، بل بدونها لما تمكنً من السير مطلقًا.
فجأة توقف محمد عن الحديث وكان على وشك البكاء، حبست دموعه بعينيه، قاطعته والدته أكملت الحكاية بدلًا منه، قصت تفاصيل 4 سنوات من المعاناة قضتها برفقة صغيرها، في البداية هي الأخرى كانت الصدمة شديدة عليها فإبنها الكبير تعرض لهذا الحادث الأليم الذي يعتبر قضى على حياته، كانت تسير برفقته خطوة بخطوة، محمد لم يتقبل فكرة فقدانه لقدميه بسهولة لكن الأم كانت قادرة أن تجعله يتجاوز تلك المحنة، فكانت دائمة الخروج برفقته، أثناء جلوسه على كرسيه المتحرك وحتى بعد تركيبه لأقدام صناعية، أصبحت بمثابة الظل الذي لا يفارقه في المدرسة والمنزل والشارع حتى هذه اللحظة لا تجعله يسير وحيدًا مطلقًا.
"لولا أمي مكنتش أعرف كنت هعيش ازاي" الجملة التي كررها محمد كثيرًا خاصة أثناء حديث والدته، ينظر إليها لا يدري أي من الكلمات من الممكن أن يتحدث بها تجاه تلك السيدة، التي لولاها لما استطاع محمد أن يستكمل المشوار، هي الأخرى كانت صابرة محتسبة ماحدث لصغيرها عند الله، مؤمنة بالقضاء، لكنّها لم تتمنى سوى أن تستطيع أن تتحمل جزء من الألم الجسدي والنفسي الذي يتعرض له طفلها كل يوم، خاصة مع وجود آثار حروق فيث جسد الصغير، تعمل يوميًا على إخفائها بالملابس، فتنجح مع جزء لكنّ هناك أجزاء أخرى لا يخفيها شيء، الأم فعلت ما بوسعها تجاه طفلها، لكنّها لم تستطع أن تمنع الشفقة والعطف التي تشاهدها في أعين من حوله كل يوم.
"حلمي أبقى دكتور وهوصله العجز مش في الجسد لا العجز بيبقى في التفكير، وأنا الحمد لله مش عاجز أنا بفكر وبجتهد وهوصل إني أحقق الحلم ده"، الجملة التي ختم بها محمد حديثه وصمت بعدها.