فجر الزعيم سعد باشا زغلول شرارة ثورة 1919 بعد قسوة الاحتلال وتغلغله في شئون البلاد وإلغائه دستورها، والمرأة لم تكن بمنأى عن الأحداث، واطلاق شعار "عاش الهلال مع الصليب" والذي لم يأتى من فراغ.
فمنذ أول لحظة دخلوا فيها الإنجليز مصر وهم يحاولون أن يثيرو الفتنة الطائفية بين جموع الشعب المصري، مثلما حدث فى الهند، وإحداث فتنة طائفية بينهم وإبعادهم عن النضال وإجلاء الاستعمار.
أزمة طائفية
الاحتلال الإنجليزي، كان يتبع سياسة عرفت حين ذاك باسم "الجنزة" وهى السيطرة على المؤسسات، والحكم بمبدأ أننا لا نحكم مصر بل نحكم حكامها، لكن حالة الترابط التى حدثت بين قطبي الأمة، واشتد عودها مع الثورة العرابية، كانت تمثل عائقا أمام هذا المحتل، فلم يجد بدا، إلا أن يشعل فتيل الأزمة الطائفية، بعد أن أوعز للمسيحيين بأن الحركة الوطنية "التى تشكلت لتصد عن البلاد مطامع المحتلين"، تسعى لإخضاع الأقلية المسيحية لحكم إسلامي يفقدها حريتها، وهو ما انجر إليه عدد من المسيحيين لرابط الدين بينهم وبين البريطانيين.
إغتيال رئيس الوزراء
فى 15 ديسمبر عام 1919 عندما كان يوسف وهبة، رئيس وزراء مصر حين ذاك، يمر في شارع سليمان باشا، وإذا بشاب يلقي عليه قنبلتين، لكن لم يصب وهبة، وبعد القبض على الفاعل، تبين أنه طالب طب مسيحي اسمه عريان يوسف، وكان عميلا للاستعمار، واعترف فى التحقيقات بأنه طُلب منه اغتيال يوسف وهبة، ليتم استخدام الحادث علة بأنه طائفي وأن الدافع ديني، ليتم تشويه الحركة الوطنية من جديد، ويتمكن الاحتلال من إعادة توازنه مرة أخرى.
عقلاء المصريين تنبأوا لهذه المحاولات قائلين ليس هناك فرق بين مسلم ومسيحي، ومن هنا كتب الشيخ على يوسف "وما المسلمون المصرين إلا اقباط غيروا عقيدتهم" فى مقال بجريدة المصور ومن هنا قام تم رسم العلم المشهور والذي ما زال يرفع حتى الأن الصليب وسط الهلال.
دور الأقباط فى الثورة
"سرجيوس عبد الملاك، مصطفى القاياتي، محمود أبو العيون، بولس غبريال، سينوت حنا"، كلها أسماء لعبت دورا مهما فى هذه الأثناء، لوأد الفتنة الطائفية التى كانت تتجدد، بارتفاع الأصوات المطالبة بالاستقلال، ولعل الدور الأكبر والأبرز هو ما لعبه القمص سرجيوس عبد الملاك، ليطلق عليه وعن استحقاق لقب رمز الوحدة الوطنية.
قمص يعتلي منبر الأزهر
رجل الدين المسيحي القمص سرجيوس عبد الملاك، أدرك الخطر عقب اغتيال بطرس غالي، وتأكد منه عندما ذهب للسودان، ووجد المسيحيين قد تركوا النادي المصري فى السودان وذهبوا لتأسيس ناد آخر أطلقوا عليه المبتكر القبطي، فاكتفى الرجل حينها بإلقاء محاضرة عن السلام والمحبة.
كان القمص مرقص سرجيوس، الذي يعد من طلائع رجال ثورة 1919، مشهورًا بفصاحته وقدرته على الخطابة والتأثير في الجماهير، فكان يخرج من كنيسته بـ"الفجالة" في كل صباح قاصدًا الأزهر، يجتمع هناك بالشيوخ، للتشاور في كيفية مواجهة الاحتلال الإنجليزي، في تلك الفترة، استطاع سرجيوس أن يلهم حماس المصريين، فكان أول قس يعتلي منبر الأزهر، واستطاع أن يجذب الجماهير إلى كلماته، فكان يستهل خطابه بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم!! إن االوطن لله، وإن عبادة الوطن هي وعبادة الله سواء".
انطلقت عبارات القمص مرقص سرجيوس من فوق منبر الأزهر التي تدعو إلى توحد كلمة المسلميين والمسيحيين، وكانت من ضمن خطاباته: "أنا مصري أولا ومصري ثانيًا ومصري ثالثًا، الوطن لا يعرف مسلمًا أو قبطيًا، بل يعرف مجاهدين فقط، دون تمييز بين عمامة بيضاء أو سوداء".
تميز سرجيوس بالخطابة، واستغل تلك الموهبة في تحقيق الوحدة، ولم يكن يخشى الإنجليز، فكانت جدران الأزهر شاهدة على مواقفه، فمن أعلى منبره قال: "إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم في مصر لحماية الأقباط فليمت الأقباط وليعش المسلمون أحرارا".
لم يكتف سرجيوس بخطابه الثائر، إنما وصل الأمر لانتقاده بعض الأقباط، الذين التزموا الصمت في تلك الفترة العصيبة التي كانت تشهدها الوطن، مطالبًا إياهم باتخاذ موقف إيجابي، فلاقت كلماته الحماسية قبولًا لديهم، وانضمت الحشود إلى صفوف الثوار.
خطيب ثورة 19
حازت شخصية سرجيوس إعجاب سعد زغلول، فأطلق عليه "خطيب الثورة" وناداه بهذا الاسم أمام الجماهير، فكان القس الثائر يلقي خطاباته فى الشوارع والميادين، ومن نوافذ القطارات أثناء سفره وحتى في أثناء نقله إلى المنفى.
في أحد المرات استمر خطاب سرجيوس على منبر جامع ابن طولون 4 ساعات متوالية، وتسبب ذلك في القبض عليه من الإنجليز، ونفيه إلى رفح، بصحبة الشيخ الغاياتي ومحمود فهمي النقراشي، فقضى تلك الفترة في ترتيل أناشيد في حب مصر.
يحيا الإنجليز
زاد سرجيوس من حيرة الجماهير عندما أصر على أن لا يبدأ حديثه، إلا بعد أن تهتف الجماهير معه "يحيا الإنجليز"، وبطبيعة الحال فإن هذا الهتاف لا يتفق مع المناخ السائد أثناء الثورة، وبرغم دهشة الجماهير فقد أصر سرجيوس على ذلك، ولم تجد الجماهير الواقفة بدا من الهتاف: "يحيا الإنجليز"، وهنا بدأ القمص سرجيوس حديثه قائلا: "نعم يحيا الإنجليز، لأنهم استطاعوا بظلمهم واستبدادهم وفجاجتهم أن يجعلوا منا هذه الكتلة الموحدة المقدسة الملتهبة"، وهنا غرقت الجماهير فى عاصفة من الضحك، وهتف الجميع بحياة سعد زغلول والوطن مصر.