في العاشرة من عمره، ملامحه دقيقة رقيقة، كلوحة فنية مرسومة باحتراف، وعيناه واسعتان مكحلة، ملابسه نظيفة دومًا تفوح برائحة العطر الخافت، ووجهه نحيل رائق ينسدل عليه في أغلب الأوقات غطاء رأسه الشفاف، فهو يبدو في صغره مثل قديس أو ملاك تأه عن طريق السماء فهبط إلى الأرض بلاقصد ليعيش حيًا بين الناس، نشأ في بيتٍ صغير بإحدى القرى الريفية، بين عائلة لم تكون كباقي الساكنين في أنحاء القرية، ولم تتسم بالطيبة والكرم مثلهم ، بل كانت منعزلة عن الجميع والكل يتعامل معهم بحذر شديد، عدد أفرادها لم يتجاوز الخمسة.. الأب في الأربعين من عمره تلاعبت على وجهه علامات الشيب ورغم ذلك يتدلى من عنقه الحبل الأسود اللامع المعلق فيه سن التمساح، وعيناه حمراء بسبب السهر الطويل، فهو عاشقًا للخمر محبًا للنساء، يتنقل طوال الليل بين الأفراح لكي يتمتع بشرب النبيذ ويعود إلى بيته قرابة الفجر.
أما الأم ثلاثينية العمر عشرينية الهيئة، محبه للخمر مثل زوجها، وجهها رائق القسمات من غير سوء، ممتلئ قليلًا، متوستط الطول، خميرة اللون، عيناها مكحلتان بشكل ملفت غير اعتيادي عند الكثير من القرية، في أغلب الأوقات تخرج مع زوجها ولا تعود إلا بصحبته عند الفجر، وهناك على الجانب الآخر يعيش الأخوة مهلهلين أحدهما ترك المنزل منذ سنوات ولم يعود، بسبب مشاجرة مع والده على "علبة سجاير" كان يتركها في غرفته، والأخر حائر بين المقاهي والأفراح، وكل طموحه أن يتزوج بفتاة في الخامسة عشر من عمرها، ويتاجر في الممنوعات من أجلها، لكي يوفر مهرها وكل حين وآخر يتسبب في خلاف بين عائلته وعائلة آخرى على شيء ما.
هكذا عاش "أيمن" في عزلة عن المجتمع بسبب أحول عائلته التي دمرت حياته، لم يجد صديقًا يعينه على نوائب الدهر، الأب ميت على قيد الحياة لا فائدة منه، والأم تنشغل بمظهرها، والأخوان رحلوا عن الدنيا بأفكارهم وكل واحد منهم ينظر إلى إشباع رغباته، طلب "أيمن" من والده ذات يوم أن يشتري "مصحف" ليذهب إلى الكُتاب مثل أطفال البلدة على أمل أن يجد صديقًا له هناك، ولكن الأب ضحك ساخرًا " ههههه انت عايز تحفظ القرآن يا أيمن.. طيب ربنا معاك يا مولانا.. ابقى خلي الشيخ يدعيلي" أخذ من والده ثلاث جنيهات أشترى ما يريد وبقى معه نصف جنيه، أشتر منه كراسة بـ25 قرش وقلم رصاص بـ25 قرش، وتوجه إلى الكُتاب البعيد عن المنزل في القرية المجاورة، جميع الأطفال يهربون ويبتعدون عنه، لا أحد يريد الجلوس بجواره جميعهم يعلمون من تكون عائلته التي دمرت حياته في صغره بسبب أفعالهم الدنيئة.
لم يتأثر بمعاملة زملائه، وكل حين وآخر يثبت لهم بأنه لم يشبه عائلته تمامًا، وبدأ حاله يتغير يومًا تلو الأخر، يحافظ على واجباته ويحفظ القرآن، رغم أن والده لم يسمح بدخوله المدرسة في صغره ولكنه كان مميزًا من بين الجميع، مرت خمس سنوات وأصبح "أيمن" في الخامسة عشر من عمره حفظ خلالهما القرآن مرتيين، وغير نظرت الجميع له في القرية الطيبة، وفي معظم الأوقات يكون إمامًا بالناس في الصلاة بالمسجد الكبير، صوته الجميل يجبر معظم المصلين على البكاء، وأصبح الجميع في القرية يتمنون صداقته بعدما كان وحيدًا لا يجد من يجبر خاطره، وفور حصوله على المركز الأول على الجمهوية في حفظ القرآن الكريم، عرض عليه شيخه الإلتحاق بمعهد القراءت لكي يدخل من خلاله الكلية، رحب "أيمن" بالأمر ورسمت الضحكة الممزوجة بدموع الفرح على وجهه، ولكن خطر بباله والده العاشق للخمر الذي يقلب البيت في المساء إلى ساحة من الضحك والسكر مع أصدقائه الذين يشبونه.
في لحظة تحولت الدموع من فرح إلى حزن وألم على حاله المرير الذي يمر به طوال حياته، ولكن تولى شيخه الأمر حتى حصل على الموافقة من والده عاشق النساء، وبعد أسبوع تلقى شيخه اتصالًا هاتفي يفيد بقبول تلميذه في المعهد، من وقتها لم يذهب "أيمن" إلى منزله المشؤوم إلا وقت النوم، وبدأ يعمل في بعض المزارع الموجودة بجوار بلدتهم لكي يكفي نفسه ويشتري أشيائه، فلم يعد يجلب الأموال من والده، ظننًا منه أنه يحصل عليها من الحرام، ظل عامان في المعهد حصل خلالهما على المرتبة الثانية بنسبة 95% واكتملت فرحته بقبوله في كلية "علوم القرآن بطنطا"، حاله تحول تمامًا من طفل صغير نشأ في بيت فسق، إلى شيخ وقائد يقتدي به الشباب في القرية الصغيرة.
مرحلة جديدة تستقبلها حيات النجم المضيء في وسط الظلام، مكونه من أربع سنوات، يحدد خلالهما مصير حياته، فهو أول من دخل الجامعة في هذه البلدة الصغيرة، كل آمله أن يصل إلى ما يريد حتى يثبت للجميع أن البيت الذي يمارس بداخله الفسق والفجور، من الممكن أن يخرج منه عالم يقود البشرية.. باقي من الزمن سبع أيام على بدء الدراسة في الكلية الجديدة، بدأ "أيمن" يرتب أشيائه ويشتري ملابسة من الفلوس التي عمل بها خلال الشهور الماضية في المزرعة المجاورة لقريتهم، وفي يوم السبت الموافق 25/10/2001 رتب حقيبته ووضعه مصحفه الصغير في كيس بيده حتى يقراء فيه خلال سفره، نظراته شاردة نحو بلدته الصغيرة يتلاعب على وجهه علامات الوداع، وعيناه تحكي الكثير من الذكريات، صعد السيارة المتجهه إلى طنطا، وبعد مرور ساعة على الطريق جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وصطدمت السيارة الفاخرة باتوبيس سياحي على الطريق الدائري، ما أسفرت عن قتلى ومصابين، تبعثرة حقيبته على الأرض، وقميصه الجديد الأبيض فاقع اللون أصبح ملطخًا بالدماء، ولم يبقى بحوزته إلا المصحف الصغير الذي كان يقراء فيه قول الله "ستكتب شهادتهم ويسألون".
وصلت أخبار مؤلمة إلى القرية الصغيرة، بأن "الشيخ أيمن" أصيب في حادث وتم نقله إلى مستشفى دمنهور العام، فنقلب حال القرية على عقب وهرول الجميع إلى المستشفى الشباب جالسون في الممر يبكون، وشيخه واقف أمام غرفة العمليات يتلو في كتاب الله، ووالده في حيرة من أمره ما بين الحزن على ولده وفلذة كبده، والسعادة بحضور أهل القرية الذي يراهم لأول مرة يقفون بجواره في شدته، ووالدته تغطي وجهها بستر رأسها الخفيف، جالسه بجانب الباب، يداها ترتجف خوفًا، وعيناها تتساقط دموعًا من عصير الحزن والألم، وفجأة خرج الطبيب بوجهٍ مبتسم، هرول الجميع إليه للإطمئنان فقال:" متقلقوش الحمد لله جت بسيطة ولكن زجاج السيارة دخل في عينه احنا عملنا تجربة وربنا يكرم ان شاء الله" بعد يومان قضاهم "أيمن" على سرير المستشفى وعيناه ملفوفة بالشاش لا يرى أحد، أمر الطبيب بعمل إشاعة مرة ثانية على عيناه، دخل إلى الغرفة وظل بداخلها قرابة ساعتين، ونتظر الجميع بالخارج، خرج الطبيب من غرفته ولكن هذه المرة بوجهٍ غاضب ولا يمتلك أعصابه قائلًا: "للأسف ياجماعة أيمن نظره راح وهيفضل طول عمره أعمى".
تعالت الأصوات والبكاء في الممر الضيق أمام غرفة العمليات، ونادت والدته بصوتٍ مرتفع ااااااااه، ومزقت الكيس الصغير التي جلبت فيه، طاقم داخلي وجلباب لولدها يرتديهما وقت الخروج، وسقط والده مغشيًا عليه على الأرض من الصدمة، وشيخه تساقطت دموعه تلقائيًا على حال تلميذه، ولكن هذا يعد طبيعيًا قد يحدث كل يوم في بعض المستشفيات، ولكن الشيء الوحيد الذي لم يكون طبيعي حينما علم "أيمن" أنه أصبح أعمى لم يبكى ولم يُحرك ساكن بل نطق بلسان راضٍ قائلًا: "الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإن إليه راجعون"، قضى في بيته خمسة أشهر يتعالج من أثار الحادث، وعقب شفاؤه آخذ "محمد" جارًا له رفيقًا وعصا يتوكأ عليها في طريقة، وبدأ يستكمل دراسته شفويًا، لم يتخيل يومًا أن الأحوال سوف تنقلب ويترك القلم من يده حتى يصبح تعليمه بالأذن فقط، ولكن هذا الحادث غير من أحول بيته الجميع بدأ الإهتمام به، يلبون مطالبه ويقضون حوائجه، لم يعد والده يدعوا أصدقائه للسهر، ولم يعد يشرب الخمر كعادته، ووالدته إرتدت نقابًا أسودًا ولم تكشف شيئًا من جسدها، وبدأت تحافظ على الصلوات الخمس لكي لا يشعر أيمن أن والديه أهلًا للفسق كما كانوا قديمًا، أصبح بيته علمًا لإستقبال الفقراء والمحتاجين، وبيتًا لجميع الشباب في القرية يلجأون إليه في أي وقت، وفي الجانب الشرقي من البيت فتح كُتاب صغير لتحفيظ القرآن مثل الذي تعلم فيه منذ سنوات على يد شيخه في القرية المجاورة.
عاش على أمل أن يرى توبة والديه، منعمون في الرضا والايمان، ولكن القدر حال بينه وبين ما تمناه، حتى رأهم بقلبه لا بعينه، مرت 4 سنوات سريعًا، حصل أيمن خلالهما على تقدير أمتياز مع مرتبة الشرف، وأصبح عالمًا من علماء الأزهر الشريف، يرفع رآيته وينصر دينه، وحصل على وظيفة دكتور في كلية الدراسات الإسلامية بالإسكندرية، وأصبح والده من رواد المسجد في كل الصلوات، بعدما كان عاشقًا للخمر أصبح عاشقًا للصلاة، وإخوته الإثنين أحدهما يعمل في التجارة والأخر ظل مهاجرًا لم يعود إلى البيت حتى الآن، ولكن في سنوات قليلة تحول البيت الذي كان ساحة للفسق ومرقدًا للشيطان، إلى بيت يذكر فيه أسم الله أناء الليل وأطراف النهار، وترعرع بين جدرانه عالم من علماء الدين الجميع يقتدي به في الحياة.