قال الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم- إن الإعلام رسالة سامية ووسيلة فعالة في نشر القيم الإيجابية الفعالة، والإعلام الراقي ركيزة أساسية من ركائز تقدم الأمم والشعوب، لأن الإعلام من أهم مؤسسات صناعة وتشكيل الوعي والاستنارة، ولست أبالغ إذا قلت إن حضارة الأمم والشعوب إنما تقاس بمدى ما يتمتع به إعلامها من مصداقية في الرسالة، وسمو في الغاية، ونبل في الهدف والوسائل بلا ميل ولا تحزب لغير الحق والحقيقة.
وأضاف أن الإعلام الجاد الذي غايته إظهار الوعي والحق والوصول إلى الحقيقة، هو عامل أساس من عوامل نهضة الأمم وتقدمها، وسبب رئيس في صناعة الوعي الصحيح وتشكيل العقول على أسس علمية راسخة.
جاء ذلك في كلمته التي ألقاها في افتتاح دورة اتحاد الإذاعات الإسلامية بأكاديمية الأوقاف اليوم، حيث أكد أن تشكيل الوعي الصحيح وصناعة العقل المستنير الذي يسهم فيه الإعلام بنصيب وافر، يقوم على دعامتين أساسيتين لا غني عنهما ولا تصلح إحداهما دون الأخرى.
وأوضح المفتي، أن الدعامة الأولى: هي دعامة إزالة كل ما يعلق بالعقل والوعي من شائعات وأوهام وأكاذيب وأضاليل، ومحاربة كل ما من شأنه تزييف العقل في جانب الأمور العلمية أو الدينية أو السياسية، وهذه الضلالات من شأنها أن تستهلك طاقة العقل والإنسان فيما لا يجدي وما لا يفيد، بل قد تجر الإنسان تحت ستار من العقائد الجازمة والكاذبة في الوقت نفسه إلى ارتكاب الجرائم الإرهابية والأعمال التخريبية.
وأشار إلى أنه على الرغم من أن معتقد هذه العقائد الزائفة والأضاليل الكاذبة ربما يحمل أرقى الشهادات العلمية، لكنه عرض نفسه لإلغاء نعمتي العقل والعلم معا، حينما عرض نفسه لهذا الكم من الشبهات والأفكار الزائفة بتلقيه العلم أو المعلومات من غير المتخصصين وهذا الأمر عام شامل لجميع المجالات والمعلومات لكنه يمثل الذروة في الخطورة التي تصل إلى حد ارتكاب الجرائم باسم الدين.
وبين المفتي، أن أول خطوة في هذا الطريق الوعر هو تلقي العلوم والمعلومات من غير المتخصصين في المؤسسات العلمية الشرعية كالأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، حيث يفتقد البناء العلمي المنهجي الصحيح، وتزداد العشوائية واللامسؤولية في التعليم والإفتاءـ مع الغياب التام والتغييب أيضا عن إدراك الواقع والمتغيرات، والغياب أيضًا عن تقدير المآلات والآثار المدمرة التي تتسبب فيها هذه الأنماط العشوائية من التلقي والإفتاء والتعليم على يد غير ذي صفة ولا اختصاص وكل هذه العشوائية أنتجت لنا في عالمنا العربي والإسلامي عقليات مشوهة تحمل أفكارا مشوهة تدعو لتكفير المجتمعات وارتكاب العنف وممارسة القتل بحجة غياب الشريعة الإسلامية ، وعودة المجتمعات الإسلامية إلى حالة من الجاهلية تزيد على الجاهلية التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت على يد هؤلاء المشوهين عقليا وذهنيا حملات لتشكيك الناس في دينهم وأوطانهم ومؤسساتهم الدينية والتشكيك عمل هدمي شديد الخطورة.
وأكد أنه لا بد أن تقوم مؤسسات صناعة الوعي وصياغة العقل، بإعادة البناء أولًا بهدم أسس الزيف وإزالة هذا الركام من الأفكار الوهمية الكاذبة التي بثتها تلك الجماعات عبر عشرات السنين من خلال العديد من الأبواق الإعلامية والأذرع الدعائية الموازية لإعلامنا الرسمي المؤسسي الجاد، فمن الضروري أن تكون رسالة الإعلام وهو في طريقه لبناء وتشكيل الوعي، أن يقوم بحملات متعددة الوسائل لتصحيح المفاهيم الخاطئة.
وأضاف أنه يجب أيضًا ملاحقة الشائعات والأكاذيب التي تطلقها الأبواق الإعلامية المضادة التي تعمل على تشويه الدين والوطن، ومن أجل أن تتم هذه المهمة على النحو الأكمل لا بد أن يكون التنسيق والتعاون والتكامل بين مؤسسات صنع الوعي على أعلى درجة، لأن هذه المؤسسات كالأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية ووزارة الأوقاف والتربية والتعليم والإعلام والثقافة، كلها تشترك في نفس الهدف والرسالة ألا وهي صناعة وتشكيل الوعي الصحيح.
ولفت مفتي الجمهورية النظر إلى أنه لم تخل مرحلة من مراحل التاريخ من حملات التشويه والإرجاف، وقد شهدت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة من المشركين وفي المدينة المنورة من المرجفين من المنافقين عدة حملات من بث الأكاذيب والشائعات بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحق القرآن الكريم وهو دستور الهداية الذي بعث به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، وقد ذكرها القرآن الكريم وتصدى لها بالتفنيد والرد، ولنستمع إلى قول الله تعالى في سورة النحل : (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين* وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِين) [ النحل : 101 : 103].
وأوضح أن هذا النموذج القرآني يرشدنا إلى الطريقة الصحيحة التي ينبغي أن نسير عليها، ونحن نهدم شبهات المرجفين المعاصرين من الإرهابيين الذين يبثون الأرجايف حول إيمان الناس والحكام والمجتمع ويبثون الأكاذيب والشائعات حول المنجزات الوطنية المختلفة من أجل خلق حالة من اليأس في الإصلاح وانعدام الأمل في المستقبل وبث حالة من الرعب والخوف والهلع في قلوب الناس من أي تغيير عالمي في عالم الاقتصاد أو السياسة.
وقال مفتي الجمهورية: "لا شك أن هذه معركة الإعلام في المقام الأول لأن الكذب الذي تبثه تلك الجماعات لا حد له ولا نهاية له ولا أفق له، بينما الإعلام الجاد يلتزم المصداقية والجدية ويلتزم بالمعايير الأخلاقية وهو يؤدي رسالته. فهذه الدعامة الأولى من دعائم بناء الوعي الصحيح وهي تفنيد الشبهات وتصحيح المفاهيم والأفكار الباطلة، وهو ما يطلق عليه في اصطلاح علماء الشريعة بالتصفية أو التخلية".
أما عن الدعامة الثانية التي يقوم عليها بناء الوعي، فأوضح المفتي، أنها دعامة بث العلوم والمعلومات الصحيحة وبناء الوعي والعقل على مبدأ التوثيق العلمي لكل ما يتلقاه من معلومات وعلوم، حيث أصبح العقل بعد أن أزلنا منه درن الشبهات والأكاذيب قابلا لبث العلوم والمعلومات الصحيحة، وهذه المهمة هي مهمة مؤسسات التعليم المختلفة بجانب الإعلام أيضًا.
وتابع : "إننا نحتاج إلى البناء الصحيح في كل ما يتعلق بطبيعة رسالة الإسلام العالمية وفي كل ما يتعلق بطبيعة الإسلام السلمية وفي كل ما يتعلق بطبيعة العلاقة بين الإسلام والآخر، إن هذا الشق البنائي المنهجي في غاية الأهمية في رحلة بناء العقل وتشكيل الوعي، من أجل هذا أعلى الله تعالى من قيمة العلم والعلماء في شتى المجالات، فالعلوم التجريبية معينة على النظر في الكون وتدبر آيات الله تعالى في الآفاق، وهي المرادة في قوله تعالى (قل سيروا في الأرض ثم انظروا)".
وأوضح أنه ليس المقصود بالنظر هنا مجرد إجالة البصر فيما خلق الله وما بثه في الكون من مناظر خلابة، وإنما المقصود هنا بالنظر النظر العلمي الدقيق الذي يكشف لنا بديع صنع الله تعالى وطلاقة قدرته وحكمته، لذلك قال بعض علماء التوحيد قديما: إن أول واجب على المكلف هو النظر الموصل إلى المعرفة بالله تعالى المبنية على الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة.
وأضاف أن العلوم التجريبية والعلوم الشرعية وإن تباينت طبيعتهما إلا أنهما يسيران على منهج واحد يقوم على التلقي المستقيم من العلماء المتخصصين، وقبل أن تتسرب الأفكار المتطرفة والمتشددة التي تخاصم العلم وتعادي العلماء، كان علماء المسلمين يعلمون العالم شتى العلوم والفنون ويصدرون الحضارة الإسلامية العربية إلى كل أنحاء العالم، مما جعل الشرق الإسلامي هو محط الرحلات العلمية من شتى البلاد الأوروبية وكان أكابر رجالات أوروبا وملوكها يرسلون أبناءهم لتعلم علوم حضارة العرب في شتى المجالات والفنون. والذي يفرق بين حالنا قديما وحديثا هي حالة الوعي والعقل الذي لم يلوث بأدران الأفكار الإرهابية والمتطرفة، وكانت العقول تبنى في كل المجالات على أسس علمية صحيحة.
وأكد مفتي الجمهورية على أن الرسالة الإعلامية إذا تكاملت مع الرسالة العلمية والتعليمية والتربوية أنتجت لنا أجيالا ناضجة في عقولها وعلومها، وشعوبا مستعصية على قبول الشائعات والأكاذيب، ومؤسسات وطنية تعمل ليل نهار من أجل رفعة هذا الوطن وبنائه ونهضته، لذلك فنحن نؤكد على أهمية التعاون والتكامل بين كافة المؤسسات التي تشارك في بناء العقل وصناعة الوعي.
وتابع قائلًا: "كان لدار الإفتاء المصرية وكذلك للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم تجارب عديدة بالتعاون مع المؤسسات الإعلامية المختلفة، حيث أدركنا من بداية اندلاع أحداث التطرف منذ عام 2013 وما بعدها خطورة الرسالة الإعلامية وأهميتها، وقدمنا بفضل الله تعالى العديد من الأفكار والمشروعات التي تحولت إلى برامج عمل على أرض الواقع، كل هذه المشروعات حظيت بتغطيات إعلامية واسعة من أجل أن تصل إلى الجماهير ومن أجل أن تساهم مساهمة فعالة في صناعة وتشكيل العقل المسلم على أسس علمية صحيحة".
واختتم المفتي كلمته بالتأكيد على أنه ورغم كل ما أعاننا الله تعالى على إنجازه وتقديمه إلى الأمة الإسلامية فإننا لا زالت لنا طموحات وآمال ومشروعات واعدة لإنقاذ الأمة من شبح التطرف والإرهاب، وليس كل ما نقدم إلا ذرة مما تستحقه أمتنا وأوطاننا وذرة أيضا مما يستوجبه علينا صدق الانتماء لهذا الوطن وشرف الانتساب لهذا الدين.