كان الهجوم الأخير الذى اغتالت فيه الولايات المتحدة قاسم سليماني ، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني وما أعقبه من هجوم استهدفت به إيران قاعدتين عسكريتين أمريكيتين في العراق، ضمن مؤشرات احتمال نشوب حرب تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط .
ويقول جود بلانشيت ، مسئول الدراسات الصينية بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، وبونى جلاسر، مستشارة شئون آسيا ومديرة مشروع قوة الصين بالمركز، في تقرير لهما نشر مؤخرا أن البعض رأى أن الصين ترحب بأي حرب تخوضها الولايات المتحدة مع إيران، لأن ذلك من شأنه أن يصرف نظر واشنطن عن التركيز على التنافس الاستراتيجي مع بكين، مما يمنح الصين فرصة مواصلة بناء قوتها وتعزيز صورتها كدولة تحافظ على النظام الدولي في ظل تراجع دور أمريكا في قيادة العالم.
وكانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وما نجم عنها من غزو الولايات المتحدة لكل من العراق وأفغانستان ، بمثابة البداية لما وصفه الرئيس الصيني آنذاك جيانج زمين بنافذة فرصة استراتيجية، حيث أدركت القيادة الصينية على الفور أن انشغال الولايات المتحدة، وغرقها في حروب متعددة في الشرق الأوسط ، يعنى إعطاء الصين مساحة حرية تحرك لتعزيز النمو الاقتصادي للبلاد وتوسيع نطاق قدرتها العسكرية، بدون ضغط أمريكي.
كما كان الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط في تلك الفترة من أسباب حدوث انقسام غير عادي، ليس فقط على المستوى المحلي، ولكن أيضا بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة الذين شاركوا في جهود حربية. ومن شبه المؤكد، أن أي حملة عسكرية جديدة ضد إيران من شأنها أن تؤدى إلى توتر العلاقات حتى مع أقرب الحلفاء، الذين تحاول الولايات المتحدة تجنيد الكثير منهم في جهودها لمواجهة أي إمكانيات عسكرية وتكنولوجية إيرانية متزايدة.
وفي حقيقة الأمر، إذا ما جرى استدراج الولايات المتحدة إلى مستنقع طويل الأمد في الشرق الأوسط على نطاق كبير، لاشك أن بكين سوف تسعى إلى الاستفادة من هذا التحول الاستراتيجي.
ويلفت الباحثان الأمريكيان بلانشيت وجلاسر النظر إلى أنه على الرغم من أن تورط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كان عنصرا مهما لنافذة الفرصة الاستراتيجية بالنسبة للصين في مطلع القرن، فإن الظروف الآن مختلفة بدرجة كبيرة، ففي ضوء اعتماد الصين الكبير على امدادات المنطقة من الطاقة واستثماراتها المتزايدة في الدول العربية، تسعى بكين بصورة رئيسية إلى الحفاظ على الوضع الراهن؛ إذ أن بقاء الشرق الأوسط مستقرا هو خيار أفضل بالنسبة للصين من أي حرب تعرض للخطر حجم مصالحها المتزايدة في المنطقة.
ويؤكد الباحثان أن عام 2020 ليس مثل عام 2001، ولا شك أن اتساع نطاق المصالح والاستثمارات العالمية الصينية يعنى أن تكلفة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط ستكون باهظة، حتى لو أضعف ذلك قدرة الولايات المتحدة على الانخراط في منافسة مع الصين.
وبالنسبة لاحتياجات الصين من الطاقة، فإنها على خلاف الدول الكبرى الأخرى التي لها مصالح في المنطقة، مثل روسيا والولايات المتحدة، تعد دولة غير منتجة للنفط أو الغاز، ولكنها مستهلكة بدرجة كبيرة، حيث تمثل واراداتها 70% من استهلاكها من النفط. وفى عام 2017، تجاوزت الصين الولايات المتحدة لتصبح أكبر مستورد للنفط الخام، وفي ظل مواصلة الصين جهودها لرفع مستوى المعيشة والتحول إلى استهلاك محلى متزايد، بالإضافة إلى تحقيق الاستقرار لاقتصادها المتباطىء، سوف تكون الأولوية الحصول على امدادات مستقرة من الطاقة.
ورغم أن روسيا تعتبر مصدر النفط الخام الرئيسي بالنسبة للصين، فإن أكثر من نصف واراداتها من يأتي من الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك). وتعتبر المملكة العربية السعودية، والعراق، وسلطنة عمان، أكبر ثلاث دول في الشرق الأوسط تمد الصين بالنفط، بما يمثل حوالى ربع إجمالي واردات العملاق الأسيوي من الخام، وإيران نفسها تمد الصين بــ585400 برميل من الخام يوميا، ومن ثم فإن أي توقف في هذه الامدادات، سوف يكون مكلفا بدرجة كبيرة للصين على المدى القصير.
ورغم أن بكين تحاول جاهدة تحويل اقتصادها نحو مصادر أكثر استدامة للطاقة، تظل الحقيقة هي أنه يوجد في الصين حوالى 300 مليون سيارة تعمل بالغاز والديزل، وتتطلب الحصول على الوقود في الوقت الحالي.
وهناك أمور مهمة بالنسبة للصين أكثر من مجرد امدادات الطاقة، ففي الوقت الحالي يعيش حوالى نصف مليون صيني ويعملون في الشرق الأوسط ، بالإضافة إلى حجم الاستثمار المتزايد للصين في المنطقة، فقد قدمت بكين أكثر من 23 مليار دولار في شكل قروض ومساعدات للمنطقة في عام 2018 ، تضاف إلى 28 مليار دولار استثمارات.
وتكمن هذه الحقائق وراء دعوات بكين الواضحة والقوية طوال الفترة الماضية إلى ضبط النفس من جانب كل من الولايات المتحدة وإيران ، وقال وزير الخارجية الصيني وانج يي في الرابع من يناير الحالي:" يتعين ضمان السلام والاستقرار في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج"، فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن للصين مصالح كبيرة للغاية في المنطقة، ولذلك فهي لا تريدها أن تتحول إلى الفوضى.