"كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس بأيدي الصليبين".. كلمات رددها صلاح الدين الأيوبي في حين استقبل مسئولية حكم مصر وتحرير المسجد الأقصى من الصليبيين، وتأسيس الدولة الأيوبية، والذي عرفته كتب التاريخ أنه أفضل فارس بشري، فهو يعد نموذج لشخصية عملاقة من صنع الإسلام، ومحرر القدس من الصليبيين وبطل معركة حطين.
ولد صلاح الدين الأيوبي، في مدينة تكريت في العراق عام 1138، في ليلة مغادرة والده نجم الدين أيوب قلعة تكريت حينما كان واليًا عليها، كما يرجع نسب الأيوبيين إلى أيوب بن شاذي بن مروان من أهل مدينة دوين في أرمينيا، واختلف المؤرخون في نسب العائلة الأيوبية، حيث أورد ابن الأثير في تاريخه أن أيوب بن شاذي بن مروان يرجع إلى الأكراد الروادية وهم فخذ من الهذبانية، ويذكر أحمد بن خلكان ما نصه: "قال لي رجل فقيه عارف بما يقول، وهو من أهل دوين، إن على باب دوين قرية يُقال لها "أجدانقان" وجميع أهلها أكراد روادية.
كما اشتهر الفارس البشري، بتسامحه ومعاملته الإنسانية لأعدائه، لذلك فهو من أكثر الأشخاص تقديرًا واحترامًا في العالمين الشرقي الإسلامي والأوروبي المسيحي، حيث كتب المؤرخون الصليبيون عن بسالته في عدد من المواقف، أبرزها عند حصاره لقلعة الكرك في مؤاب، ولذلك حظي صلاح الدين باحترام خصومه وبدلًا من أن يتحول لشخص مكروه في أوروبا الغربية، استحال رمزًا من رموز الفروسية والشجاعة.
المذهب السني
وفي السنوات الأخيرة للدولة الفاطمية قبل انهيارها في مصر وإعلان الدولة الأيوبية، شهدت الدولة صراعًا داميًا بين شاروم وضرغام، على منصب الوزارة وقتها، ولم ينجح واحد منهما في حسم الصراع لمصلحته، والذي انتهى بالقضاء على الوزيرين المتنافسين عام 1168، لتولي صلاح الدين، للوزارة سعيه لرد مصر إلى أحضان الدولة العباسية، والقضاء على الخلافة الفاطمية في مصر.
كما استغرقت تلك المهمة ثلاث سنوات متواصلة من صلاح الدين، ليقوي المذهب السني في مصر، عمل خلالها على عزل القضاة الشيعيين، وأحل محلهم قضاة من أهل السنة، وأنشأ عددًا من المدارس لتدريس الفقه السني في مصر، والتي تتمثل في المدرسة الناصرية لتدريس الفقه الشافعي، والمدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي، وفي الوقت نفسه قصر تولي مناصب القضاء على أصحاب المذهب الشافعي، فكان ذلك سبباً في انتشار المذهب في مصر وما يتبعها من أقاليم.
معركة حطين
لم تتوقف الأعمال البطولية لصلاح الدين الأيوبي عند ذلك، وأنما خاض سلسلة من المعارك ضد الصليبيين، كللت بالنصر، ثم توج انتصاراته عليهم في معركة "حطين" سنة (583هـ الموافق 1187م)، وكانت معركة هائلة أُسر فيها ملك بيت المقدس وأرناط حاكم حصن الكرك، وغيرهما من كبار قادة الصليبيين.
سقوط القلاع الصليبية
ترتب على ذلك سقوط العديد من القلاع الصليبية في يد صلاح الدين دون معارك فاستسلمت قلعة طبرية، وسقطت عكا، وقيسارية، ونابلس، وأرسوف، ويافا وبيروت، وغيرها، وأصبح الطريق ممهدًا لفتح بيت المقدس، فحاصر المدينة المقدسة، حتى استسلمت وطلبت الصلح، ودخل صلاح الدين بيت المقدس، في (27 من رجب 583هـ الموافق 2 من أكتوبر 1187م)، وكان يومًا مشهودًا في التاريخ الإسلامي.
قلعة الجبل
واهتم صلاح الدين ببناء الأسوار والاستحكامات والقلاع، ومن أشهرها "قلعة الجبل"؛ لتكون مقراً لحكومته، ومعقلاً لجيشه، وحصناً منيعاً يمكِّنه من الدفاع عن القاهرة، غير أن صلاح الدين لم يتمكن من إتمام تشييدها في عهده، وظلت القلعة مقراً لدواوين الحكم في مصر حتى وقت قريب، وأحاط الفسطاط والعسكر وأطلال القلاع والقاهرة جميعاً بسور طوله 15 كيلومتر، وعرضه ثلاثة أمتار، وتتخلله الأبراج.
صلح الرملة
اشتهر صلاح الدين بسماحته وجنوحه إلى السلم؛ حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، فقد عامل الصليبيين بعد استسلام المدينة المقدسة معاملة طيبة، وأبدى تسامحاً ظاهراً في تحصيل الفداء من أهلها، وكان دخول المسلمين بيت المقدس دون إراقة دماء وارتكاب آثام صفحة مشرقة ناصعة، تُناقض تماماً ما ارتكبه الفرنج الصليبيون عند استيلائهم على المدينة سنة (492هـ الموافق 1099م) من الفتك بأهلها المسلمين العُزَّل وقتل الألوف منهم.
وفي أثناء مفاوضات صلح الرملة التي جرت بين المسلمين والصليبيين مرض السلطان صلاح الدين، ولزم فراشه، ثم لقي ربَّه في (27 من صفر 589هـ الموافق 4 من مارس 1193م)، وكان يوم وفاته يوما لم يُصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين.