نحرص دائمًا على أن لا ننسى الشخصيات التي لها بصمة ظاهرة ومؤثرة في قلوب الملايين.. ضمن تلك الشخصيات التي لا يجب أن تُنسى "الضاحك الباكي", نجيب الريحاني نجم السينما والمسرح الذي استطاع أن يحجز مقعده في قلوب المصريين والعرب على مدار 75 عامًا, وأصبح رمز البهجة والتواضع، وفي هذا التقرير نستعرض لكم محطات من حياة زعيم المسرح الفكاهي.
ولد نجيب إلياس ريحانة, الشهير باسم نجيب الريحاني, في 21 يناير 1889م، بحي باب الشعرية بمدينة القاهرة في زمن الخيديوية, من أب عراقي وأم مصرية قبطية, وكانت ديانة نجيب الريحاني ومعتقداته لعائلة مسيحية من السريان الكاثوليك, كان له أخوين هو ثالثهم.
اشتهر كممثل فُكاهي مصري، ويُعد أحد أبرز رُواد المسرح والسينما في الوطن العربي عمومًا ومصر خصوصًا، ومن أشهر الكوميديين في تاريخ الفنون المرئية العربية.
كان من أسرة ميسورة فدخل مدرسة "الفرير الفرنسية" بالقاهرة، وفيها ظهرت موهبته التمثيلية المُبكرة، إلى أن لاحظ موهبته "الشيخ بحر" أستاذ اللغة العربية فعمد إلى اختياره رئيسا لفريق التمثيل، فقد كان يعود إلى غرفته ليتدرب على أدواره بأصوات عالية ولساعات طويلة، ولطالما تعرض للتأنيب من قبل أمه بسبب ذلك, مما جعله ينضمَّ إلى فريق التمثيل المدرسي.
اشتهر الريحاني بين مُعلميه بقُدرته على إلقاء الشعر العربي، وكان من أشد المُعجبين بالمُتنبي وأبي العلاء المعري، وأحب الأعمال الأدبية والمسرحية الفرنسية, بعد إتمامه دراسته، عمل موظفًا بسيطًا في شركة لإنتاج السكر في صعيد مصر، وكان لتجربته هذه أثر على العديد من مسرحياته وأفلامه السينمائية لاحقًا، وعاش لفترة مُتنقلًا بين القاهرة والصعيد.
وفي أواخر العقد الثاني من القرن العشرين قام بتأسيس فرقة مسرحية مع صديقه بديع خيري عملت على نقل الكثير من المسرحيات الكوميدية الفرنسية إلى اللُغة العربية، عُرضت على مُختلف المسارح في مصر وأرجاء واسعة من الوطن العربي، قبل أن يحول قسمٌ منها إلى أفلام سينمائية مع بداية الإنتاج السينمائي في مصر, ولُقب ب"زعيم المسرح الفُكاهي".
تزوج "الريحاني" من الراقصة الاستعراضية اللبنانية "بديعة مصابني", بعد قصة حب بينهما عام 1924، وشكلا ثنائيا قويا على الصعيد الفني، لكن بعد زمن وكثير من المشاكل قررا الطلاق علما أنهما تبنيا طفلة أسموها "جولييت"، ثم تزوج بعدها بفترة الاستعراضية الألمانية "لوسي دي فرناي" وأنجب منها فتاة تدعي "جينا", لكن بسبب القوانين الألمانية التي تمنع زواج الألماني لأي جنسية أخرى في تلك الفترة سجلت الوثائق زوجته لرجل ألماني آخر.
أوضح "الريحاني" في مذكراته:-
نجيب الريحاني حين نجح أصبحت الناس أمام باب مسرحه بالطوابير,
فبدأت الغيرة تدب في المنافسين وقرروا أن يحاربوه بكل الطرق الممكنة ماعدا طريقة واحدة وهي "الفن".
بدؤوا أولا بإشاعة على الريحانى يتهموه بأنه عميل للإنجليز فكان رد الريحانى "إزاى وأنا نفسي بهاجمهم فى مسرحياتى؟", ولما فشلوا في هذه الخطة قرروا شن حملة مكثفة للهجوم عليه في الجرائد فكانت تخصص عواميد ومقالات لمهاجمته ومع ذلك بقيت شعبيته في ازدياد فقرروا التخلص منه.
أكد نجيب فى مذكراته: "إن بعض المنافسين أجروا عدد من البلطجية عليه وبقوا يروحوا التايترو, يفتعلوا المشاكل عشان الجمهور يطفش ولما مالقوش فايدة, ضربوا عليا رصاصة فى مرة ونفدت منها بأعجوبة, وفى مرة تانية واحد نشني بالنبلة وكانت هتجيب أجلي", "قررت بعدها إني أُداويها بالتى كانت هى الداء ولجأت لحيلة مستديرة خلصتني من كل الوش ده, فاتعرفت على كبير البلطجية وكان اسمه يوسف شهدى , وقولتله يا عم يوسف انا عندى ليك شغلانة لوز اللوز, انت هتتولى حفظ الامن فى التايترو مقابل مرتب شهري فطبعا يوسف فرح فرحة الأهبل, وقال لنفسه إن المرتب الشهري أحسن من الشغل القطاعي اللى مش جايب همه", وبكدة ظهر الريحاني بذكاء وبدل ما يوسف كان هو اللى بيعمل مشاكل بقى هو اللى بيحمى الريحانى من أى مشاكل.
إنجازاته مع المسرح وإعتزاله:-
اعتزل المسرح وفي رصيده أكثر من 50 عملًا مسرحيًا منها 33 مع صديقه بديع خيري، إضافة ل 6 أوبريهات أشهرها "الشاطر حسن", ثم عاد إلى السينما مقدما أعمالًا هامة برغم أن إنتاجه السينمائي لم يتجاوز 10 أفلام تضمنت صاحب السعادة كشكش بيه وسلامة في خير وسي عمر وغيرها.
وهو الفنان الذي يطبق عليه "ليس بالكم وإنما بالكيف"
سار الريحاني على نهج أنه لا يهتم بالمشاركة في أكبر عدد ممكن من الأفلام, بقدر اهتمامه بأن يقوم باعمال تخلد ذكراه, و هو ماحدث بالفعل.
فبمجرد أن يرى أحد فيلم لنجيب الريحاني لازم يتم مشاهدته, وذلك جعل شهرته طاغيه حتى الأن, واللي كانت عن طريق الأفلام, على الأقل بالنسبة لنا, رغم شغله الكبير بالمسرح, فعدد الأفلام اللي قدمها كانت 10 أفلام:_
"صاحب السعادة كشكش بك 193, حوادث كشكش بك 1934, ياقوت أفندي 1934, بسلامته عايز يتجوز 1936, سلامة في خير 1937, سي عمر 1941, لعبة الست 1946, أحمر شفايف 1946, أبو حلموس 1947, غزل البنات 1949".
ويذكر أن جاء فيلم "غزل البنات" كالأتي:-
كان يُقيم نجيب الريحاني "فنان الشعب", في الطابق الثالث شقة رقم 321 في أضخم عمارة في مصر وهي عمارة الإيموبيليا, وقامت أبنته بإغلاق تلك الشقة منذ رحيله.
دخل الريحاني المصعد في عمارة الإيموبيليا, التي كان يقيم فيها مع العديد من الفنانين ورجال السياسة والكثير من طبقة المجتمع, ولم يلتفت حوله, ونظر في أرض المصعد, وفجأة سمع صوت سيدة تحييه "أستاذ نجيب", أيه الفرصة العظيمة دي؟, مين؟ "ليلى مراد" يا سلام أنتي جيتي في وقتك, أنا !!, أنا تحت أمرك يا أستاذ, النهارده أنا كنت في أمس الحاجة لشيء مثير يحصل لي في حياتي يخرجني من حالة مش كويسة, قد كده يا أستاذ نجيب أنا أسعدتك؟, أنتي بتسعدي الملايين, مش هتسعدي واحد غلبان زيي, أجمل حاجة فيك يا أستاذ نجيب تواضعك الجميل ده, سيبك من كلام المجاملات ده, أنت يا بنت أنت مش عايزاني أمثل معاكي؟, يا سلام يا أستاذ, دي أمنية, هو أنا أطول, متتصورش سعادتي قد أيه بالكلام ده, يا ليلى أنا نفسي أمثل معاكي فيلم قبل ما أموت, وقد كان فيلمهم "غزل البنات", وتوفي نجيب الريحاني في نهاية الفيلم, وكان أشهر أفلامه.
قبل وفاتة "الريحاني" قام ببناء قصر كبير, تبرع به في وصيته كمأوى للفنانين المتقاعدين الذين يعانون كثيرا بعد الشيخوخة, وخاصة لعدم وجود أي معاشات أو خدمات تأمين صحي لهم, توفي الريحاني في 8 يونيو عام 1949، بسبب مرض التيفوئيد، الذي دمر قلبه ورئتيه، وقٌيل أنه توفي بسبب جرعة زائدة من البنسلين حيث تم حقنه بكمية كبيرة خاطئة, وذلك أثناء تصويره لآخر مشاهد فيلم "غزل البنات" الذي عرض بعد شهر من وفاته, وذُكر عندما كان نجيب على فراش الموت رثا نفسه قائلا "مات نجيب. مات الرَّجُل الذي اشتكى منهُ طوب الأرض وطوب السَّماء إذا كان للسماء طوب.. مات نجيب الذي لا يُعجبه العجب ولا الصيام في رجب... مات الرَّجُل الذي لا يعرفُ إلَّا الصراحه في زمن النفاق.. ولم يعرف إلَّا البحبوحة في زمن البُخل والشُّح.. مات الريحاني في 60 ألف سلامة", شكلت وفاته صدمة كبيرة للعديد, وخاصة عندما علم أنه بسبب خطأ طبي واشترك الآلاف في تشييع جنازته، ورثاه الملك فاروق الأول وعميد الأدب العربي الدكتور طٰه حسين, حيثُ تمر على ذكراه 74 عامًا, وما زالت أعماله لها بصمة على الجميع.