حوار الحكيم "مع الله" يشعل معركة تنتهي بـ"عزومة على طبق عدس"..

الاحد 26 مارس 2023 | 06:37 مساءً
توفيق الحكيم والشعراوي
توفيق الحكيم والشعراوي
كتب : محمود عبده

في الأول من مارس من عام 1983م، بدأ الكاتب المصري المعروف" توفيق الحكيم" نشر سلسلة من المقالات في جريدة الأهرام العريقة، تسببت في تعرضه لهجوم شرس من عدد من الشخصيات الإسلامية وعلماء الأزهر آنذاك، كان على رأسهم الشيخ محمد متولي الشعراوي، بل إن بعض رجال القضاء قد دخلوا تلك المعركة، وأدلوا بدلوهم فيها، مختصمين الحكيم ومقالاته..

لم تكن تلك أولى المعارك الصاخبة التي دخلها الحكيم على مدار حياته التي امتدت لأكثر من تسعة عقود، ولكنها كانت من أكثرها سخونة وحساسية لأنها دارت على الساحة الدينية، في فترة شهدت زيادة المد الديني في مصر، وتبلور ما يسمى بـ"الصحوة الإسلامية".

حملت المقالات عنوان "حديث مع وإلى الله".. وقال الكاتب في التمهيد لها إنه قرر أن "يناجي ربه" مناجاة خاصة، فيجري حوارا "متخيلاً" مع الله، وأنه اختار يوم الثلاثاء لنشر تلك المقالات الأسبوعية، ليوافق ذكرى ولده الوحيد المتوفى شاباً في الثلاثين من عمره. ورغم أن الحكيم قد توقع أن يثير ذلك الحوار "الافتراضي" غضب "بعض المتزمتين"، حسب وصفه، لأنه تجرأ على الحوار مع الله، فإن الغضب جاء أكبر مما توقعه، وعلى نحو متسارع.

وكانت جريدة "اللواء الإسلامي" التي كان يصدرها "الحزب الوطني" الحاكم آنذاك، حجر الزاوية في الهجوم على الحكيم ومقالاته، فكتب الدكتور الأزهري محمد أحمد المسير مقالاً في الجريدة يوم 10 مارس 1983 حمل عنوان "أدب الحديث عن الله"، رفض فيه فكرة الحوار مع الله من حيث المبدأ، وقال فيه نصاً: ": إن الطامة الكبرى هي في إقامة هذا الحوار أساساً، فهو افتراء وكذب وخداع، ولا يغني عن ذلك أن يقول الحكيم: “أقيم أنا الحوار تخيلات وتأليفا”..

ودخل الكاتب الإسلامي "أنور الجندي" في سياق المعركة، فهاجم الحكيم هجوما شديدا ووصفه بالعدو للفكرة الإسلامية على مدار 50 عاماً من عمره، وقال "إن تاريخ الأستاذ توفيق الحكيم حافل بمعارضته للفكرة الإسلامية منذ اليوم الأول لظهور مسرحيته “أهل الكهف” 1932، وحتى اليوم".

وكان الشيخ محمد الغزالي واحد ممن استفزهم عنوان المقالات، وكانت له انتقادات سابقة لبعض مؤلفات الحكيم، واتهمه من قبل في كتابه "قذائف الحق" بالترويج لقيم وأفكار حرمها الإسلام، وأنه " لا يدري شيئا عن قضايا الحلال والحرام"، فكان طبيعياً أن يكون الغزالي في صف من هاجموا مقالات الحكيم.

كما استفزت المقالات واحدا من كبار رجال القضاء في مصر، وهو المستشار محمود عبد الحميد غراب رئيس محكمة الجيزة حينها، الذي كان حاداً عنيفا في هجومه على الحكيم، مستعيناً بلغة القضاة، وقال إن للحكيم "سابقة" أخرى على صفحات مجلة أكتوبر عندما أجرى حواراً مع ملك الموت بأسلوب ساخر، ومما جاء في رد المستشار:" وكان هذا الحديث في واقعه مقدمة لتجرؤ ذاك التوفيق بعد ذلك على سخريته من الله جل في علاه، فهو إذن سبق إصراره بمعاندة الله والنيل من الذات العلية المقدسة، مثله في ذلك كمثل إبليس اللعين الذي استكبر على الله ورد عليه بأسلوب المكابرة قائلا: “فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم”.

ومع سخونة المعركة عقدت جريدة اللواء الإسلامي ندوة لمناقشة الحكيم فيما جاء بمقالاته، استضافت فيها أسماء إسلامية لامعة وثقيلة، أبرزهم: الدكتورة عائشة عبد الرحمن (الكاتبة المعروفة ببنت الشاطئ)، والدكتور الحسيني هاشم الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية آنذاك، والدكتور موسى شاهين لاشين أستاذ التفسير والحديث بجامعة الأزهر، والدكتور أحمد عمر هاشم أستاذ الحديث بجامعة الأزهر، واستمرت الندوة 4 ساعات كاملة، رد خلالها الحكيم على النقد الموجه له ولمقالاته.

وطلبت "اللواء الإسلامي" من الشيخ الشعراوي، الذي كان من كتابها الثابتين، أن يرد على ما أثاره الحكيم في الندوة وفي مقالاته فوافق، وندد بما فعله الحكيم، وكان مما قاله:" الأستاذ توفيق الحكيم لم يقل لنا كيف كلمه الله.. هكذا مواجهة أم أرسل إليه ملكا أم ماذا حدث؟ وما هي الكيفية التي تم بها الحديث فإن كان الحديث من الله تخيلا أن الله يقول فكأن الأستاذ توفيق الحكيم قد قيد مرادات الله بمراداته، أي أنه قد قيد إرادة الله بإرادته هو؛ فما يريده عقل توفيق الحكيم يقوله الله سبحانه وتعالى في مقالاته وما لا يريده لا يقوله.".

ورغم هجوم الشعراوي على الحكيم وتخطئته إياه، فإنه أراد في النهاية أن يخفف من حدة المعركة ومن وزن الحكيم ككاتب في القضايا الدينية أيضاً، وقال كلاماً يفهم انه أن الأمر لا يعدو خلافا "دنيويا" يراد به الدنيا لا الدين، فالحكيم في النهاية ليس عالما دينياً تمثل كتاباته وأقواله الدينية خطورة على الناس.

ويبدو أن الحكيم، الشيخ العجوز الذي كان في الرابعة والثمانين من عمره، قد استشعر الخطر من ذلك الهجوم، وأراد تبرئة ساحته، فأصدر في مايو التالي (أي بعد أسابيع قليلة من نشر أول المقالات)، كتاباً جمع فيه مقالاته الأربعة تحت عنوان "الأحاديث الأربعة"، دافع فيه عن عقيدته وإيمانه، ونفى فيه شبهة الإساءة لمقام الألوهية، وأكد على أن المقالات لا تعدو " مناجاة بلغتي الخاصة وثقافتي الخاصة، تعبيرا عن جبي الخالص لربي .. فلن أقبل الفكر الذي يصدر بلا تفكر عن غير عقلي الذي خلقه الله ليفكر، ولا أرتدي بلا مناقشة ما خرج من قلب وعقل الآخرين دون تأمل فيه وتمحيص"

وقال في مقدمة الكتاب إنه قد حذف من المقالات "كل الكلمات والأسطر التي كتبت تخيلاً منسوبة إلى الله، مراعاة للحساسية الدينية التي لا أريد إطلاقاً أن تسبب إزعاجاً لأي مؤمن..".. ورداً على الانتقادات التي وجهها له الشيخ الشعراوي وغيره بأنه استشهد بأحاديث وروايات ضعيفة، قال الحكيم في المقدمة إنه حرص في الكتاب على تخريج الأحاديث الواردة في مقالاته.. وفي الجزء الأخير من الكتاب يدافع الحكيم عن إسلامه، ويذكر أسباب اقتناعه بالإسلام كدين، ويسرد الأسباب من خلال عدة آيات قرآنية و أحاديث نبوية تظهر عظمة الإسلام..

والطريف في هذا السياق أن الكاتب ثروت أباظة قد تدخل لإنهاء المعركة، وعرض عزومة على الشيخ الشعراوي وتوفيق الحكيم، على "عدس أباظي"، وكتب في جريدة الأهرام طريقة طهي العدس الذي سيتناوله الطرفان في بيته.

وهكذا انتهت المعركة بسلام، دون ضرر أو مشكلات لأحد أطرافها..

وعلى الجانب الآخر، وبعيداً عن غبار المعركة الدينية، فهناك من انتقدوا المقالات من أرضية أدبية وفكرية، ورأوا أن مستواها الفكري والبياني أقل من مستوى كتابات الحكيم، وأن الحكيم صاحب الكتابات الفلسفية والوجدانية، كان ضعيفا في حواراته وأفكاره في المقالات، ولم يرق لمستوى كتابات سابقة تحاورت مع الله أو تحدثت عنه، مثل كتاب "المواقف والمخاطبات" لابن النفري، أو حتى كتاب " رأيت الله" للكاتب مصطفى محمود!! 

اقرأ أيضا