تبنى نيكولو مكيافيلي المفكر والفيلسوف والسياسي الإيطالي مبدأ في القرن السادس عشر، حيث يعتقد أن صاحب الهدف باستطاعته أن يستخدم الوسيلة التي يريدها أيا كانت وكيفما كانت دون قيود أو شروط. فكان هو أول من أسس لقاعدة الغاية تبرر الوسيلة. وهاجمه البعض حتى أصبح اسمه ملازماً للشر وذلك لخلو رؤيته المكيافيلية من المبادئ الإنسانية.
وعلى العكس تماما فإن رؤية الإسلام هي تحريم الانتهازية ومحاربة الانتهازين ورفض كل من يؤمن بالرؤية المكيافيلية. والأصل في الإسلام أن للوسائل أحكام المقاصد: فالوسيلة إلى الواجب واجبة، والوسيلة إلى الحرام محرمة. ولما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم مهاجرا من مكة إلى المدينة كانت معه ودائع قريش، وكان لا يوجد أموال للإنفاق على الهجرة، وأخرج أبو بكر ماله كله للإنفاق على الهجرة وترك أولاده بلا مال. مع ذلك لم يبرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغاية بأن يأخذ أموال قريش التي كانت بحوزته لتكون وسيلة يصل بها إلى الغاية وهى الهجرة إلى المدينة، وذلك لأن المبدأ لا يتجزأ فلا يتوصل إلى حلال بحرام ولا يتوصل إلى حق بباطل.
ولكن هناك تنظيمات تطلق على نفسها بأنها تنظيمات إسلامية وتضفي على نفسها المنهج الإسلامي تطبق هذا المنهج الانتهازي. فالإخوان في حماس يتحالفون مع ايران وسوريا، والإخوان في سوريا وفي ليبيا يتحالفون مع تركيا، والإخوان في تركيا وفي المغرب يتحالفون مع إسرائيل، والإخوان في تونس يتحالفون مع فرنسا، والإخوان في مصر يتحالفون مع بريطانيا، والإخوان في العراق يتحالفون مع أمريكا، والإخوان في أوروبا يتحالفون مع أوكرانيا، والإخوان في الكويت يتبرؤون من إخوان الخارج، والإخوان في اليمن يتحالفون مع قطر، والإخوان في قطر يحلون أنفسهم من التنظيم.
والمعروف أن ايران دولة ذات نهج توسعي في المشرق العربي، وذات رسالة طائفية مذهبية (شيعية)، كما أنها لا تترد في تقويض مناعة الدول والمجتمعات، كما حدث ويحدث في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وكما حاولت وتحاول في دول عربية أخرى. ولبسط سيطرتها في المشرق العربي استخدمت القضية الفلسطينية لتلميع صورتها في المنطقة ووجدت ضالتها في حماس بالرغم من مذهبها السني. ومع سيطرة الإخوان المسلمين على الحكم في مصر شعرت حماس بأنها في غنى عن علاقتها مع ايران وترك خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس مقره في سوريا الذي أقام فيه طويلا. ولكن بعد أن استقر الأمر للنظام السوري وتأكد لكل الأطراف انه لن يسقط، عادت حماس لممارسة البراغماتية مع ايران وبشار الأسد وارتمت في أحضانهما.
وفي سوريا استنكرت جماعة الإخوان المسلمين تطبيع حركة حماس مع النظام السوري وتقاربها مع إيران وحزب الله، بالرغم من تطبيع إخوان سوريا مع تركيا وتأييدهم للعدوان التركي على شمال شرق سوريا. وعلى شاكلة إخوان سوريا، رحب إخوان ليبيا بالتدخل العسكري التركي داخل الأراضي الليبية وعبروا عن تأييدهم لقرار البرلمان التركي بإرسال جنود أتراك إلى ليبيا.
ولم يبدي إخوان تركيا أي رفض أو امتعاض لزيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ تركيا في زيارة هي الأولى لرئيس إسرائيلي إلى تركيا منذ أربعة عشر عاما، حيث استقبله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (الذي وصفه يوسف القرضاوي بأنه خليفة المسلمين).
وبالرغم من انتقاد إخوان المغرب التطبيع الرسمي للإمارات والبحرين مع إسرائيل، قامت المملكة المغربيّة بتطبيع علاقات دبلوماسيّة مع إسرائيل وبموافقة رئيس الوزراء، سعد الدين العثماني، المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين.
وعندما قدمت كتلة ائتلاف الكرامة بتونس، لائحة تطالب فيها بإصدار اعتذار رسمي وعلني من الدولة الفرنسية للشعب التونسي عن كل الجرائم التي ارتكبتها في حقه من قتل واغتيال وتعذيب واغتصاب وتهجير قسري ونهب الثروات الطبيعية وتعويض المتضررين، لكن كتلة حركة النهضة الإخوانية أجهضت هذه المطالب ورفضت تمرير اللائحة حفاظا على علاقتها بفرنسا.
وكما تمثل القاهرة بلد المنشأ للتنظيم، فإنّ بريطانيا تمثل عاصمة ثانية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، ومازالت تشكل لندن ملاذاً آمناً لتنظيم الإخوان المسلمين، حيث يتواجد العديد من قيادات التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين في بريطانيا، وبعضهم يحمل الجنسية البريطانية.
وعلى الرغم من أن الموقف العلني للإخوان عند غزو العراق كان الإدانة للغزو والتحذير من تداعياته وآثاره الخطيرة، ولكن على الجهة الأخرى شارك الحزب الإسلامي (الجهة الممثلة للإخوان المسلمين بالعراق) في مجلس الحكم تحت إدارة بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق، بل وشاركوا في حكومات الاحتلال الأمريكي المتعاقبة.
وبالرغم من دعم أوكرانيا لغزو العراق حيث كانت من أوائل الدول المؤيدة للقرار الأمريكي بل وقيامها بأعمال عدائية ضد العراقيين، إلا أن إخوان أوروبا كان لهم موقف آخر. فقامت جماعة الإخوان المسلمين وفروعها الأوروبية بتأييد أوكرانيا في حربها مع روسا وذلك لمغازلة أمريكا وترسيخ وجودها في أوروبا.
وبعد أزمة دخول الجيش العراقي الكويت، حاولت قيادات مكتب الإرشاد في مصر، إبان المرشد الرابع محمد حامد أبو النصر، المرواغة في بداية الأمر عبر بيان، أدانت فيه، موقف صدام حسين، لكنها في الغرف المغلقة وعبر خطابها الغير معلن، كانت مؤيدة لقراراته، مع رفضها التام لأي تحركات أو تحالفات عسكرية أجنبية من شأنها إجلاء القوات العراقية عن الكويت. مما دفع إخوان الكويت إلى التبرؤ من التنظيم الأم.
وفي اليمن، حاولت السعودية الحد من نفوذ الدولة الإيرانية في المنطقة والقضاء على جماعة الحوثيين التي تدعمها، لكن إخوان اليمن (حزب الإصلاح) كان توجههم نحو قطر وتركيا ينفذون ما يملى عليهم.
وقطر التي قدمت الدعم المادي والسياسي والتغطية الإعلامية للإخوان من أجل السيطرة على الجماهير العربية، كان المقابل من تنظيم الإخوان المسلمين في قطر هو حل الجماعة لنفسها، واعتزال العمل السياسي، واندماج أفرادها في مؤسسات المجتمع المدني القائمة وتكوين تيار إسلامي نهضوي بدل البقاء في هرمية تنظيمية.
وكعادة أصحاب المنهج المكيافيلي، فإن جماعة الإخوان لا تأبه لأي شيء سوى مصلحتها وتتخذ من الانتهازية سلاحاً ووسيلة لاكتساب قواعد جديدة في الأوساط السياسية والاجتماعية المختلفة. فتارة تتحالف جماعة الإخوان المسلمين مع ايران وسوريا، وتارة تتحالف مع تركيا، ومرات تتحالف مع إسرائيل، ومع بريطانيا، ومع أمريكا، ومع أوكرانيا، ومرة يتبرأ إخوانها في القطر الواحد من إخوانهم في الخارج، ومرة أخرى يحلون أنفسهم من جماعة الإخوان.
ا.م.د عبد الرحمن الخضري
رئيس قسم الدراسات الإسلامية باللغات الأجنبية السابق بجامعة الأزهر