أثارت البالونات الحارقة وطلقات الرصاص التوترات على الحدود بين غزة وإسرائيل، وأدى إطلاق البالونات المفخخة باتجاه البلدات الإسرائيلية في الأيام القليلة الماضية إلى قصف بعض مواقع حماس والجهاد الإسلامي كرد انتقامي من الاحتلال الإسرائيلي، فيما خرج قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بتصريحات تؤكد أن استمرار إطلاق البالونات سيؤدي إلى رد فعل عنيف حتى لو أدى ذلك إلى تصعيد شامل، وقال رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس خلال جلسة للكنيست إن إسرائيل ليست لديها مصلحة للتصعيد في غزة، ووضع غانتس شرطًا لتحسين الوضع الاقتصادي في غزة من أجل عودة الجنود الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس منذ 2014.
وشهد قطاع غزة ثلاث حروب منذ عام 2007 أسفرت عن مقتل وجرح آلاف الأشخاص، كما كانت هناك عدة جولات من المواجهات العنيفة، ثم توصلت حماس وإسرائيل إلى تفاهم في نهاية عام 2017 لتقديم التسهيلات وتخفيف الحصار المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007 ، على الرغم من تصاعد التوتر منذ ذلك الحين، وكان من بين الاتفاقات التي تم التوصل إليها تحسين إمدادات الكهرباء في قطاع غزة ، وزيادة دخول البضائع ، والسماح للمواد التي تعتبرها إسرائيل ذات استخدام مزدوج.
وفي هذا الشأن قالت إلهام شمالي الباحثة في الشأن الإسرائيلي، إن إطلاق البالونات الحارقة ليس له علاقة بملف تبادل الأسرى المعرقل، فحتى تموز الماضي لازالت الاتصالات حول تبادل الأسرى ترواح مكانها منذ شهرين، التي كان أخرها عبر الوسيط الألماني، ولكن لا تقدم جدي في الأمر، حيث تصر حركة حماس على ان صفقة التبادل لن تتم؛ إلا اذا اطلقت اسرائيل سراح الاسرى القدامى، وبشكل خاص اصحاب المؤبدات الأطفال، ولكن جانتس اراد في الآونة الاخير استبدال جثامين الشهداء، واعتبارهم ورقة مساومة مقابل رفات الاسرائيليين حال تم التوصل إلى صفقة تبادل، مأكدة أن البالونات الحارقة فقد أرسلت حركة حماس الأسبوع الماضي نوعين من الرسائل للحكومة الإسرائيلية الأولى البالونات هي بمثابة رسائل لتحريك الملفات الراكدة، بفعل تباطئ تنفيذ تفاهمات عام 2014م، وهذه البالونات هي أداة من ادوات المقاومة الشعبية محدودة الأثر تكرر اللجوء اليها كلما ساءت الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة، فهي رسالة لتخفيف الحصار ولفت أنظار العالم عما يجري هنا.
الرسالة الثانية كانت بإطلاق حركة حماس عدداً من الصواريخ التجريبية من قطاع غزة تجاه البحر المتوسط، في تحد لحكومة نتنياهو جانتس، فهي بمثابة رسائل أكثر من أنها تجارب للمقاومة، حيث تريد حركة حماس من ذلك ارسال رسائلها التحذيرية، بأن الامور تتجه نحو الأسوأ، وأن الهدوء لن يطول في غزة، إن لم تلتزم بتلك التفاهمات، التي تم التفاهم عليها العام الماضي مع حركة حماس والجهاد الاسرائيلي عبر الوسيط المصري، التي قضت بتخفيف الحصار، وتوسيع التجارة، ومناطق الصيد، وادخال المواد المحظورة، وزيادة عدد التجار والعمال مقابل وقف المظاهرات الاسبوعية( مسيرات العودة)، ومنع اطلاق الصواريخ.
ولكن تحاول اسرائيل من خلال التصعيد المحدود المحافظة التفاهمات الهشة، التي اخترقتها اسرائيل مرات عديدة، الرد الاسرائيلي جاء سريعا على لسان جانتس وزير الجيش الذي قال ان حكومته ليست لديها أي مصلحة في التصعيد العسكري بغزة، وان بقاء الوضع على ما هو عليه في قطاع غزة هو مصلحة اسرائيلية، لتنفيذ صفقة التبادل مع حركة حماس، والأهم من ذلك ربط السماح بتنفيذ المشاريع الاقتصادي والحيوية في غزة بعودة جثامين الاسرائيليين المحجوزين منذ عام 2014م لدى حركة حماس، هو أهم الملفات المطروحة على اجندة الحكومة الاسرائيلية في كيفية تعاملها مع قطاع غزة، وهذا له علاقة بتوقيف المنحة القطرية التي ستنتهي في شهر أيلول المقبل أيضاً.
الرد الاسرائيلي على البالونات الحارقة، كان محدوداً، صحيح أنها منعت دخول الوقود لقطاع غزة، إلا انها لم تغلق المعابر التجارية، وقلصت مساحة الصيد في البحر، ولم تغلق البحر، فكانت أشبه بالرسائل غير المباشر لحركة حماس بإيقاف العمل في المعابر حال استمرار الوضع على ما هو عليه، وأنها سوف تصعد من ردودها في الأيام المقبلة ما لم توقف حركة حماس اطلاق البالونات الحارقة .
وعن إمكانية تطور المواجهة أكدت شمالي أن بحسب الرؤى الإسرائيلية الأمنية والعسكرية؛ فإن التعامل مع غزة في الوقت الراهن يختلف عما سبق، فلم تعد تشكل غزة تهديدا استراتيجياً لإسرائيل، حتى مع تطور سلاح المقاومة، إلا أن شن عدوان جديد ( حرب رابعة ) يصعب الإجماع الاسرائيلي عليها؛ بسبب تكلفتها الاقتصادية خاصة في ظل الازمات المستشرية في الشارع الإسرائيلي، فهي تتطلب ميزانية ضخمة، والأهم من ذلك ان تكلفتها عسكرياً وانسانياً، ليس بالأمر السهل في الظروف الراهنة، وانه لم يعد حيوياً تحقيق الأهداف الإٍسرائيلية بالقوة العسكرية، طالما هناك استراتيجيات أخرى يمكن التعامل بها مع قطاع غزة بأقل تكلفة، وهو ما يسمى في علم السياسة بسياسة العصا والجزرة، التي تغني عن الدخول في حرب لا يعلم أحد كيف ستكون نهايتها بالنسبة لإٍسرائيل، التي لفظت قطاع غزة منذ اكثر من عقد ونصف.
ومع ذلك فإن استمرارية المواجهة العسكرية بين اسرائيل وفصائل المقاومة أمر لا خلاف عليه، ولا يمكن ان يتوقف إلا بتوقف الاعتداءات الاسرائيلية، واندلاع المواجهة، محتمل في أي وقت، ولكن ليس كما يتصور البعض فأثار دمار حرب عام 2014م، لازالت ماثلة للعيان، وانما على شكل جوالات خاطفة بما يعرف بسياسة الحرب بين الحروب ..
محدودية الرد الاسرائيلي على اطلاق البالونات تدل ان اسرائيل غير معنية بتصعيد جبهة غزة في الوقت الراهن، ولكن تهديدات جانتس الذي اشترط رفع الحصار بإطلاق سراح الأربعة اسرائيليين قد يزيد من توتر الاوضاع في قطاع غزة، وطالما لم تفي اسرائيل بوعودها وتقديم تسهيلات وتحسينات لأكثر من مليوني فلسطيني يعانون منذ 14 عاماً من ويلات الحصار رفعت نسبة البطالة والفقر إلى اكثر من 50%، ثم أن أي حرب بحاجة لموافقة امريكية بالدرجة الأولى وهو ما لا يمكن توفره، خاص وأن الولايات المتحدة مقبلة على انتخاباتها الرئاسية في الأشهر القريبة.
أما عن عمليات القصف يمكن أن تكون ستار لعمليات التوسع في الضفة، أشارت إلى أن اسرائيل ليست بحاجة لأن تغطي عمليات في الضفة الغربية ومخططاتها لتنفيذ عمليات الضم وفق صفقة القرن فهي تمارس الاستيطان والانتهاكات اليومية و الاعتقالات والاعتداءات بحق الشعب الفلسطيني في مكان، وقد واكب هذا التصعيد تسارع في وتير الاستيطان القدس، الذي سيؤدي إلى عدم امكانية تحقيق وجود دولة فلسطينية وشطب أي كيان فلسطيني في الضفة الغربية، وذلك عبر استكمال مشروع القدس الكبرى ( أي 1 ) ، التي كان أخرها الاعلان عن 1000 وحدة استيطانية، لفصل القدس عن الضفة الغربية وبدأ مخطط ضم المستوطنات الكبرى معاليه ادوميم وارئيل، هذا إلى جانب تزايد حالات هدم البيوت في القدس، التي وصل عددها منذ بداية العام الى 313 بناية ومنشأة بما يشبه العزل من الخارج لمدينة القدس والتهويد والافراغ من الداخل للمدينة، والإبعاد عن المسجد الاقصى.
وأضافت إلهام أن حركة الجهاد الاسلامي فعليا دخلت منذ نهاية العام الماضي على خط التفاهمات الهشة بعد اغتيال بهاء ابو العطا عام 2019م، حينما تركت وحيدة في مجابهة القصف الاسرائيلي ولم تتدخل حركة حماس في حينه لمساندتها، وبعد إطلاق البالونات الحارقة الاسبوع الماضي بقي رد الفعل الفلسطيني في مكانه، ولم يشهد الأمر تغير خاصة وان المناطق المستهدفة من الجيش الإسرائيلي كانت مناطق متكررة ومعروف للجميع ولم توقع اصابات في صفوف المواطنين او المقاومة ولم تحدث تدمير او هدم للمباني، وانما كانت ترويع للمواطنين بصورة اكبر خاصة مع سقوط احدى القذائف على مدرسة خاصة للأونروا.
كما أن اسرائيل لا ترغب في تدحرج الأمور الى حالة حرب، وانما تصعيد بين فترة وأخرى، يتم خلالها تحقيق بعض الأهداف المحدودة، ولكن في القصف الأخير هناك حالة من المنافسة المتزايدة بين نتنياهو وجانتس، اللذان تحكمها سياسة عامة اتجاه غزة لا يمكن تخطيها، كونها تحكمها دوائر أمنية كبرى وخطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، ولكنها منافسة لمن يضغط أكثر على سكان قطاع غزة .
وعن تأثير هذا القصف على السياسة الداخلية لدولة الاحتلال، استطردت أن السياسة الاسرائيلية دائماً ما تستخدم قطاع غزة كورقة رابحة، وطالما استخدمها بنيامين نيتياهو كاستثمار سياسي في مواجهة أي أزمة داخلية تحدق بحكومته السابقة والحالية، ففي كل مرة تحدث بها علية خلط للأوراق الاسرائيلية الداخلية، تكون غزة حاضرة على أجندة اليمين واليسار الاسرائيلي، من خلال التصعيد المحدود، والقصف الموجه لبعض المناطق الفارغة، وتهديد بفتح جبهة مع غزة؛ كون الأوضاع في غزة على حافة الانهيار، بفعل التفاهمات التي لم تعمل بها اسرائيل وتماطل في تنفيذها لإبقاء الوضع الراهن في غزة على حاله، والاستمرار عزل غزة عن السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغريبة، فهو بمثابة التصعيد المحسوب لمصلحة نتنياهو،الذي يعاني من أزمة ائتلافية واضحة فلم يعد هناك انسجام بين جانتس ونتياهو، واستمرار تصاعد المظاهرات الإسرائيلية احتجاجا على سياسة الحكومة الاقتصادية، وتقصيرها في مواجهة تفشي فيروس كورونا، وملفات المحاكمة نتياهو.
ومن هنا لا يمكن اغفال التصعيد في غزة عما يدور داخل اسرائيل على خلفية عدم المصادقة على الميزانية والخلافات العميق بين جانتس ونتنياهو، التي وصلت الى طريق مسدود وبات تهدد الائتلاف الحكومية بالتوجه نحو انتخابات رابعة في وقت مبكر، حيث يصر غانتس على المصادقة على ميزانية للعامين الحالي والمقبل كما نص اتفاق تشكيل الحكومة، وتم تحديد 25 اب كموعد للمصادقة وحال لم يتم ذلك تحل الحكومة والكنيست ويتم التوجه للانتخابات، حيث دل استطلاع للرأي على تراجع في شعبية نتنياهو، وحصول الليكود على 32 مقعد بدل 40مقعد.
وبشكل مختصر جولة التصعيد هذه وما تحمل الأيام القادمة هدفهاً اسرائيلياً هو احراج وزير الدفاع الاسرائيل أمام الجمهور الاسرائيلي، وجعله عاجزاً عن مواجهة التحديات التي تمثلها جبهة غزة، عبر تأخير دخول الاموال القطرية مما يعني مزيد من البالونات الحارقة، فهدف نتنياهو هو اخراج جانتس من أي منافسة قادمة حال تم حال الحكومة والكنيست والتوجه نحو انتخابات رابعة.
أما عن التدخل العربي والدولي، قالت شمالي إن الإعلام الاسرائيلي يحاول الموجه دائما تضخيم الفعل الفلسطيني، وايهام العالم بأن الطائرات الورقية والبالونات أسلحة ذكية لها فعلها، فالبالونات الحارقة تعد اداة من الأدوات البسيطة في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية اليومية، وأنها تشكل قوة رادعة لإسرائيل، ويتم تصوير الحدث على انه يمثل تهديد فعلي لدولة اسرائيل؛ وذلك لتهيئة الرأي العام الاقليمي والدولي لتبرير أي عدوان محتمل على قطاع غزة، وخلق ما يبرر لها استهداف واغتيال المجموعات الشبابية أو أي فلسطيني، وكذلك قصف مواقع محددة قد استخدمت في اطلاق تلك البالونات.
جمهورية مصر العربية حاضرة بوساطتها مع كل تصعيد يقع بين حماس واسرائيل لوقف الاعتداءات الاسرائيلية، واحتواء الموقف قبل تدهوره، بالرجوع الى تفاهمات التهدئة عام 2014م.
الأمر اللافت للنظر انه خلال التصعيد الذي جرى في قطاع غزة، كان محادثات اسرائيلية قطرية فعالة على الأرض، ويبدو ان هذا الأمر كان له علاقة في عدم تصاعد الأمور بين اسرائيل وحماس، حيث تدخل رئيس جهاز الموساد يوسي كوهين، وطالب من قطر الاستمرار في ارسال الاموال الى القطاع، وانتزاع فتيل التصعيد الحالي، وهذه المرة الثانية التي يتدخل في كوهين لتسكين الوضع في قطاع غزة، وجلب الهدوء لمستوطنات غلاف غزة في ووقف تفشي الأزمات امام حكومة نيتياهو ، حيث وافقت قطر على استمرار تحويل الاموال لفترة جديدة، بعد انتهاء المنحة الحالية التي ستنتهي في أيلول المقبل، وهو ما اكده محمد العمادي رئيس اللجنة القطرية لإعادة اعمار قطاع غزة لتخفيف من التوتر والتصعيد بعد تكثيف اطلاق البالونات الحارقة من غزة وحدوث حرائق في عدة مستوطنات، وتبها شن الطيران الاسرائيلي لضرباته وغاراته على قطاع غزة .
وأكدت إلهام شمالي أن انفصال غزة عن الضفة كان دوماً هدفاً استراتيجياً اسرائيلياً لتصفية المشروع الوطني الفلسطيني، بقاء الوضع على ما هو عليه في قطاع غزة مصلحة اسرائيلية، وهو ما صرح به تنياهو اكثر من مرة ان استمرار الانقسام يعني لا قيام لدولة فلسطينية، كلما لاحت أزمة داخلية في دولة اسرائيل؛ كانت الحاجة لشن حرب جديدة على غزة .