لحظة انطلاق مسبار الامل الى المريخ، عدت بذاكرتي الى الماضي ومنذ حوالى سنتين، وفي طريق عودتي من إحدى العواصم العربية العريقة، إلى أبو ظبي المدينة التي أقيم فيها، كنت أٌحسّ وأنا على مقعد الطائرة بنشاط كبير، وشعور بالبهجة التي بدت لي غامضة الأسباب، رغم أيام التعب السابقة التي لم أحظَ فيها بالنوم إلا لِماماً. ولأني تعودت أن أراقب مشاعري جيداً (سواء الإيجابية أو السلبية) وأركز على تحليلها ووصفها حتى أستطيع معرفة أسبابها، اعتقاداً مني أن بعض انفعالاتنا المجهولة لا تكون بلا سبب، وإنما لسبب غامض يمكننا الكشف عنه بتطوير أدوات خبرتنا الشعورية، لذلك فقد استغرقتُ وقت الرحلة القصيرة نسبياً بالبحث عن أسباب هذا الشعور بالبهجة والنشاط، فكانت النتيجة خلف كل الافتراضات التي وضعتها أن السبب هو العودة إلى الديار، وأن هذا الشعور كثيرا ما كان ينتابني في رحلات سابقة دون أن أعيره هذا الانتباه، وتذكرت كيف أن بهجة العودة إلى الديار واحدة من الموضوعات التي يكثر ذكرها في أعمال الشعر والرواية والأمثال الشعبية وغيرها.
قبيل أن تحط الطائرة، وبدل أن ينتهي الموضوع عند معرفة الأسباب، انشغل تفكيري ببعض الأسئلة عن المدن وتاريخها وطبائعها المتمايزة، وعن علاقتنا بها وشعورنا حولها: لماذا نحب مدناً دون أخرى؟ ولماذا تتنوع مشاعرنا تجاه المدن كتنوعها تجاه الأشخاص؟ وكيف نستطيع ترتيب أفضلية المدن ومراتبها بناء على ما نكنّه لها من حب أو احترام أو دهشة أو إعجاب؟ ثمة مدن تشغلنا بتاريخها، وأخرى بحاضرها، ومدن نحبها لأحداث سارة صادفتنا فيها، ومدن نتطير من سيرتها لذكريات مؤلمة نسترجعها كلما صادف ذكرها.
انقطع تداعي الأفكار هذا وأنا أتأمل العاصمة الاتحادية من الجو، وكنا كلما اقتربنا من الأرض أكثر كلما توضحت الرؤية لدي أكثر، ليس لمعالم المدينة الجميلة فحسب، بل ولأفكاري أيضاً، فوجدت أنه لا يكفي موقفنا الشخصي من مدينة ما لنحكم عليها، فللمدن أيضاً ذاتيتها الموضوعية المستقلة، وخصوصيتها التي تميزها عن غيرها، وتعطيها هويتها التي لا تشاركها فيها مدينة أخرى، تماماً مثلنا نحن البشر، لا يشبه أحدنا الآخر إلا في بعض ما هو ظاهري أو عرضي.
بين المدينة التي كنت قادماً منها، ذات التاريخ الممتد لآلاف السنين، وأبو ظبي العصرية التي ما زال بعض سكانها شاهدون على تحولها عن البلدة الصغيرة وتطورها منذ استلام الشيخ زايد طيب الله ثراه لحكم الإمارة، تذكرت بيت الشعر العربي المحفّز الذي يقول: إن الفتى من يقول ها أنا ذا، ليس الفتى من قال كان أبي، وكذلك حال المدن وحال أبو ظبي، مع أن التاريخ يذكر أن التواجد السكاني بدأ في جزيرة أبو ظبي خلال القرن الثامن عشر عندما استوطنت فيها أسرة آل نهيان، ثم بقيت قرية صغيرة لمئات السنين تتكون من بيوت قليلة تحيط "بقصر الحصن" الذي بناه الشيخ ذياب بن عيسى مقراً للحكم وما زال ماثلاً حتى الآن، وحظيت بإطلالة جميلة عليه من مكتبي لسنوات طويلة.
كان اكتشاف النفط في الإمارة هو العلامة الفارقة في تاريخ المدينة الحديث، فنالت حظها مما تناله المدن أو المناطق النفطية من بدء حركة إعمار وتطوير سريعة، ركزت في البداية على البنى التحتية الواسعة التي لا بد منها لاستيعاب حركة العمران النشطة التي يدفع إليها الوضع الاقتصادي الجديد، كمقار إدارات الشركات والبنوك ومد شبكة المواصلات وتطوير الميناء والمطار، وتوسيع منظومة الطاقة وافتتاح المراكز التجارية الجديدة، وكل ما تتطلبه سوق النفط العالمية لممارسة أنشطتها المتنوعة.
ومع إعلان اتحاد الإمارات السبع مطلع سبعينيات القرن الماضي، كانت أبو ظبي على عتبة عهد جديد بعد اختيارها عاصمة الدولة الاتحادية الناشئة، فبدأت فيها الموجة الثانية من البناء والتطوير بإشراف مباشر من رئيس البلاد الشيخ زايد رحمه الله، يسانده نجله الشيخ خليفه، لتقطع أبو ظبي خلال السنوات الخمس الأولى من عهد الدولة الاتحادية أهم أشواط نهضتها في المجالات كافة، وتُعِدّ البنى التحتية للتطور الأفقي الذي بات يفرضه الواقع الجديد للمدينة، سواء في المنحى الاقتصادي (ازدهار سوق النفط وصناعاته ونشوء القطاعات الخدمية والمصرفية المتعلقة به)، أو المنحى السياسي (بروز أبو ظبي كعاصمة للاتحاد ومركز للسفارات والبعثات الدولية).
استفادت أبو ظبي من الطفرات الاقتصادية التي اتسمت بالوفرة منتصف السبعينيات، مثلها مثل مدن كثيرة في الخليج العربي، لكن العقل الاستراتيجي الذي كان يدير المدينة لم يتوقف عند حدود الاستهلاك فحسب، فبدأ التفكير مبكراً في تنويع المصادر الانتاجية ووضع خطة لتقليص نسبة الاعتماد على القطاع النفطي في الناتج المحلي دون تقليل كميته، أي عبر تطوير وإبداع قطاعات أخرى جديدة (بلغ اعتماد أبو ظبي على النفط 90% مطلع السبعينيات وأصبح قريبا من 30% في السنوات الأخيرة)، حتى إذا ما جاءت الأزمة الاقتصادية الثمانينية كانت أبو ظبي قادرة أكثر من غيرها على الحد من الآثار السلبية التي ترتبت على انخفاض أسعار النفط عالمياً، واستطاعت الحفاظ على أهم مؤشرين للنجاح في تجاوز الأزمة، الأول استمرار دوران عجلة الانتاج، والثاني الحفاظ على مستوى دخل المواطنين ورفاه عيشهم.
على غرار وتيرة الصعود الاقتصادي المكين والمدعم برؤى استراتيجية واضحة وأهداف محددة، مثلت أبو ظبي مثالاً نموذجيا للصعود السياسي خليجياً ثم إقليمياً وعالمياً، فقد استطاع والد الأمّة المؤسس رحمه الله أن يضع القواعد التنفيذية للسياسة الخارجية على هدى القيم والمفاهيم التي تكرس أخلاقية العمل السياسي داخلياً وخارجياً، كالديبلوماسية السلمية والتعاون والانفتاح على الآخر والشراكة الإنسانية ورعاية المصالح المتبادلة وتوازن الحقوق والواجبات، ثم كان تأسيس مجلس التعاون الخليجي استجابة لدعوة الشيخ زايد، أول ثمار ما غرسته سياسة أبو ظبي حين أُعلن عن تأسيس المجلس وعقد أول اجتماعاته فيها مطلع الثمانينيات. وكلنا أمل اليوم أن تتضافر جهود أبو ظبي مرة أخرى مع شقيقاتها من العواصم الخليجية لعودة المجلس كما كان من قبل، بدوره الفعّال عربياً وإقليمياً.
امتلكت أبو ظبي مبكراً أسباب قوتها السياسية، ما مكنها سريعاً من تجاوز حدود تأثيرها خليجياً لتكون نموذجاً ريادياً على المستويين العربي والإسلامي، ساعد في ذلك حفاظها على الثوابت التي من شأنها تعميق الروابط الإنسانية مع أمم وشعوب العالم، والتي كان من أهمها إعلان الشفافية واعتماد سياسة الوضوح في المواقف والأهداف التي تتبناها الدولة أو تعمل على تحقيقها. كما ساهمت أخلاقيات الحكم، التي ميّزت السلوك السياسي لحكّام الدولة ومسؤوليها، في فتح آفاق السياسة العالمية أمام العاصمة الاتحادية، ليكون دورها دائماً محل ترحيب وارتياح وثقة، حتى غدت قوتها الناعمة مثالاً يُحتذى في المحافل والفعاليات السياسية الإقليمية والدولية.
ليس واقع أبو ظبي اليوم، بفاعليتها وتأثيرها وأهمية قرارها، نتيجة الحظ أو الصدفة، فهذان عنصران قد يصلحان في كل شيء إلا في السياسة، كما أن التفوق الاقتصادي، ورغم أهميته، لا يكفي بمفرده للوصول للتفوق السياسي، وشواهد الاقتصادات العالمية على ذلك كثيرة. وبرأيي أنه لا يمكن اختزال أسباب التفوق الذي أحرزته العاصمة الاتحادية بعنصر أو اثنين، ولا يمكن تحديد ظروفه بجانب واحد، فالتفوق عموماً حالة إبداعية تتضافر لتحقيقها شروط موضوعية وأخرى ذاتية، وتهيئ لها البيئةَ المناسبةَ ظروف متعددة، سواء على صعيد التاريخ أو الجغرافيا أو الاقتصاد أو المجتمع، وفوق كل هذا وذاك، تمثل الإرادةُ الساعية إلى التفوق الفيصلَ الحكم لتحقيقه، شريطة أن تتعين هذه الإرادة في قيادة استثنائية ملهمة، تستطيع وبكل تلقائية وبساطة، تحقيق ما يظن الآخرون أن تحقيقه ضرب من المعجزات أو المستحيلات.
ولأن المدن كالخيل الأصيلة تُقاد بفرسانها، فإن التمعن في سير قادة أبو ظبي يفك الكثير من أسرار نجاحها وريادتها، فقد استطاع الشيخ زايد رحمه الله منذ استلامه حكم الإمارة، ثم رئاسة الدولة بإماراتها السبع أن يستشرف بحدس نفّاذ ملامح المستقبل العالمي الذي ستصنعه الطاقة من جهة ضرورتها وحاجة العالم الحديث إليها، والتكنولوجيا الدقيقة من جهة سيطرة التقدم العلمي الذي بدأت ملامحه تتوضح خلال الربع الأول من القرن العشرين. من ناحية ثانية، استطاع مؤسس الدولة فهم التغيرات العميقة في السياسة الدولية، خاصة مع انحسار شمس الامبراطورية البريطانية لصالح القوى الصاعدة سواء في أوروبا أو أمريكا الشمالية، وتنبه مبكراً لأثر هذا التغيرات سواء في محيط الجوار الإماراتي أو في العالم ككل. فسارع رحمه الله إلى بناء منهجية سياسة الدولة بما يضمن أن تمتطي أبو ظبي موجة التغيير قبل أن يجرفها تيار التغيير بالإكراه.
أما الشيخ خليفة والشيخ محمد بن زايد ولي العهد حفظهما الله، فقد تمرّسا مبكراً على نهج الشيخ زايد، وأشرفا على وضع رؤية والدها موضع التنفيذ. وقد استطاع الشيخ محمد ترسيخ موقع أبو ظبي وتأثيرها على المستوى الدولي، ونقلها إلى مصاف العواصم العالمية، يساعده في ذلك مسؤولوا الصف الأول في الإمارة من أولاد الرئيس المؤسس وثلة من أبناء الإمارات المخلصين، إلى جانب المقيمين الذين أتوا من كل أطراف العالم ليجدوا في أبو ظبي أرضاً طيبة وطنناً كريماً.
وها هي أبو ظبي اليوم، تخطو بثقة وقوة كبيرتين لتحقيق رؤية ٢٠٣٠ مع قرب الاحتفال بمرور خمسين عاماً على تأسيس الدولة، وعلى اختيارها العاصمة الاتحادية التي أنجزت ما عجزت عنه عواصم أخرى إقليمياً وعالمياً، رغم ذلك ما زال الطريق في أوله وما زالت أبو ظبي تعد بالمزيد. ولا يكفي المقال هنا لتعداد المؤشرات وذكر الأرقام والنسب الموضوعية التي تجعلها العاصمة الأولى عربياً، أو في المراكز المتقدمة عالمياً، سواء من حيث النمو الاقتصادي أو السياحة أو الأمان أو السعادة أو عدد الأثرياء أو التنظيم أو تطبيق معايير المدن الذكية، كما أنها تحتل المركز الأول في كثير من الفعاليات والمعارض الدولية، إلى جانب ريادتها كمنصة علمية وتكنولوجية عالمية.
إلى جانب المجالين السياسي والاقتصادي، يبرز المجال الثقافي لأبو ظبي ضمن منظومة متعددة الأدوار، تتجاوز المفهوم العام للثقافة، والشائع ارتباطه بالأدب والفكر، نحو فضاءات أرحب تتعلق بتعميق دور الثقافة في الحياة الاجتماعية وارتباطه بالقيم الإنسانية والوعي العلمي والتقدم الروحي، وذلك من خلال عمل مؤسسي متكامل تتضافر فيه جهود قطاعات مختلفة يأتي التعليم على رأسها، فقد أصبحت أبو ظبي اليوم مدينة تعليمية كونية، تضم إلى جانب مدارسها الوطنية الحديثة مدارس دولية من كافة أنحاء العالم، أما الجامعات فيها، الحكومية والخاصة والدولية فتغطي اختصاصاتها جميع فروع العلوم والصناعات، مع الاهتمام بالاختصاصات الجزئية والتطوير الأكاديمي للمهارات والفنون، ما يقلص الفجوة الكلاسيكية بين التعليم النظري الأكاديمي وسوق العمل، ويلغي فائض الدراسات الجامعية العامة التي لم تعد مخرجاتها صالحة لمواكبة تكنولوجيا وأعمال العصر.
على هامش منظومة التعليم هذه، وطّدت أبو ظبي أسس ثقافة عالمية جديدة تجمع بين الشرق والغرب، وتتمثل قيم التسامح والحوار وقبول الآخر والسلام العالمي ونبذ العنف والتطرف والتفرقة، واُختير صعيدها ليستضيف فروع أهم المتاحف العالمية وعلى رأسها اللوفر الفرنسي، ويستقطب كبرى جامعات العالم كالسوربون الباريسية وجامعة نيويورك، فكانت هذه العاصمة من أفضل الجهات التي بات يؤمها كثير من العلماء والمفكرين والمبدعين، ضمن بيئة محفزة تدعم حرية الفكر والتعبير والاعتقاد، وتحفظ حقوق الإنسان وكرامته واستقلاليته، بغض النظر عن جنسيته أو جنسه أو دينه أو عرقه.
ولأن السياسة هي كل شيء، بحسب رأي جورج أوريل، ولا يوجد شيء بعيداً عن السياسة، فإن ما أنجزته أبو ظبي اليوم ما كان ليحدث لولا السياسة نفسها، وما تميّز العواصم عن غيرها من المدن إلا لأن مسمى العاصمة هو مسمى سياسي بالدرجة الأولى، لذلك فإن سياسة عاصمة الإمارات العربية المتحدة، ومن خلال النهج الذي تتبناه، والقائم على الالتزام الفعال بميثاق الأمم المتحدة وغيره من المواثيق الدولية، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤون الغير، باتت مستعدة لأداء أدوار كبيرة ومهمة يفرضها واقع السياسات اليوم، عربياً وإقليمياً وعالمياً، كما أن الحكمة والتوازن اللذَين اتسمت بهما الديبلوماسية الإماراتية خلال عقد فوضى الربيع العربي جعلا من أبو ظبي قبلة لفض النزاعات، ووساطة لحل الخلافات، ومرجعاً حكماً بين الخصوم، ومع أن ما يعلن في هذا الإطار أقل بكثير مما لا يعلن، فإن التاريخ كفيل بحفظ ما قامت وتقوم به أبو ظبي اليوم، والذي جعل منها عاصمة لم تتوج بعد للديبلوماسية العربية، ولكن حدوث ذلك ليس بالأمر البعيد، فأبو ظبي الحاضر سبّاقة على شقيقاتها العربيات بتحقيق مجمل الشروط الذاتية والموضوعية، والتمكن من سائر أنواع اللوجستيات، التي تمكنها من القيام بدور رئاسي وفعال على مستوى جامعة الدول العربية، ولعل تحقق ذلك يبدأ عبر إعداد العاصمة لتوطين المكاتب والهيئات والمؤسسات الدائمة، والتابعة للجامعة، خاصة الاقتصادية والتنموية والعلمية والثقافية منها، ولا ننسى كيف دأبت هذه العاصمة على أن تزين برجيها الشهيرين، برج خليفة وبرج أدنوك، بأعلام الدول العربية في كل ذكرى تصادف عيد استقلال هذه الدول تعبيراً عن قيم الإخاء والاحترام والمشاركة الوجدانية.
كما أن خبرة وتاريخ العاصمة الاتحادية التي دخلت عامها الخمسين، قد يؤهلانها لتوسيع تجربتها الاتحادية مستقبلاً عبر تجاوز محددات الجامعة العربية وتطوير فكرتها نحو اتحاد عربي تدريجي، تنشأ نواته الأولى من الدول العربية الكبرى، لتنضم إليها تباعاً الدول الأخرى على غرار التجربة الرائدة للاتحاد الأوروبي، ولتتحقق رؤية الأوبيريت الشهير (الحلم العربي) الذي انطلق من الإمارات منتصف التسعينيات مكرساً قيمة الاتحاد والتعاون بين الأشقاء.
أبو ظبي اليوم التي سارعت لكسر القيد المفروض على الشقيقة دمشق ديبلوماسياً وإنسانياً، فأرسلت المساعدات لدعم سورية وشعبها (الذي أكّن له مودة ومحبة تفوقان كل وصف) للتصدي لجائحة كورونا التزاما برؤية الشيخ زايد في أن الخير الذي أنعم الله به على الإمارات يجب أن يعم الجميع. والأمر ذاته ينطبق على مساندة الشعب الفلسطيني رغم الإساءة التي تصدر بين حين وآخر عن فئة قليلة من أفراده فتتجاوزها الإمارات سريعاً، وهي ذات الشخصية الواضحة والصريحة، والتي لا تقبل الوقوع في فخ الوهم ولا تنجر وراء العاطفة على حساب العقل، لا لها ولا لغيرها من الأشقاء العرب. ولا شك أن الرؤية الإماراتية للوضع الفلسطيني تقوم على الرؤية العقلانية لموازين القوى الإقليمية والعالمية، وعلى مبدأ السياسة كفن للممكن وليست للقفز على حدود الواقع وإمكانياته. لذلك تؤكد الإمارات على وجوب قيام السلام العادل الذي يضمن حقوق جميع الأطراف وأمنهم ومصالحهم، وتضغط في سبيل تحقيق ذلك بناء على علاقاتها الديبلوماسية الوثيقة مع الأطراف الدولية الفاعلة سواء غرباً باتجاه أوروبا وأمريكا، أو شرقا باتجاه روسيا والصين.
وأملنا أن تؤدي الجهود التي تبذلها أبو ظبي اليوم، والتي أتينا على ذكر بعضها في هذا المقال، إلى تحقيق مستقبل أفضل على صعيد الدول العربية ككل، خاصة وأن الرؤية الإماراتية للمنطقة العربية تكسب دعم أهم العواصم الشقيقة، وعلى رأسها الرياض والقاهرة وعمّان، حيث يتطلع الجميع إلى توحيد الإمكانات والقوى الاقتصادية والتنموية والسياسية، كخطوة على طريق بناء اتحاد عربي على غرار أوروبا، يكون لأبو ظبي فيه ذات المكانة التي حظيت بها بروكسل في الاتحاد الأوروبي.
أخيرا.. وبعد أن رأيت بكل إجلال وفخر، إطلاق مسبار الأمل الإماراتي نحو المريخ، وهو الأول من نوعه عربياً، ومن التجارب القليلة عالمياً، أدركت تماماً ان الإمارات ليست دولة عالمية على الأرض فحسب؛ بل هي دولة عالمية في الفضاء أيضاً. وبالرغم ما يفرضه قيد التاريخ، على الطبيعة والإنسان والعمران من عقبات ومحددات، ورغم المسارات الخطية المستقيمة التي يتتبعها التطور التاريخي، والتي تتسم بالبطئ والتراكمية، لا يخلو العالم من الظواهر التي تأخذ شكل الطفرات التطورية، وتحقق قفزات كيفية سريعة ومتلاحقة، وتُحدث تغييرات نوعية تكسر قيد التاريخ وتؤثر في تغيير مساره، مثل التغيير النوعي الذي شهدته أبو ظبي خلال نصف قرن فقط، سواء في الطبيعة أو العمران أو الإنسان. نقلا عن إيلاف