لعبت المخابرات المصرية على جميع الأوتار للتجسس على الوحدات الإسرائيلية بسيناء، فلم تتوقع إسرائيل أن المخابرات المصرية قد تستخدم طفلا لاختراق مواقعها الحصينة في سيناء، بعد تدريبه على أيدى رجال المخابرات في أهم عملية شهدتها حرب الاستنزاف.
الطفل صالح عطية
أحد أبناء البدو في سيناء، حيث عمل راعيا للغنم، بجانب بيعه للبيض والألبان لجنود الاحتلال الإسرائليين، فقد شاءت الأقدار أن يكون أصغر جاسوس مصري، وربما على مستوى العالم، عندما نجح أحد ضباط المخابرات الحربية آنذاك في تجنيده للعمل لصالح المخابرات، ليستحق صالح أن يكون أفضل من كل أجهزة تكنولوجيا التجسس آنذاك، ويصير فيما بعد ضابطا بالمخابرات الحربية.
بداية دخول عالم الجاسوسية
بدأت قصة التجسس عندما عبر ضابط المخابرات "محمد على كيلاني" القنال متخفيا في شخصية أعرابي، بحث عن خيط رفيع يوصله بأحد سكان سيناء الوطنيين ليكون جنديا للوطن ضد العدو الإسرائيلي، يصل كيلاني إلى أحد آبار المياه ليشرب منه، فيجد مراده إلى جوار البئر، كوخ صغير يعيش فيه الشيخ عطية، والسيدة مبروكة علم الدين، ونجلهما الصغير صالح، ويتعرف الضابط على الأسرة الصغيرة، ويطلب منها استضافته لمدة ثلاثة أيام حتى تصل بضاعته القادمة عبر الحدود المصرية، وكعادة أهل سيناء يكرمون ضيفهم، وتنشأ صداقة بين الشيخ عطية والضابط المتنكر في زي الأعرابي.
وعمل الضابط على تجنيد والد الطفل في بادئ الأمر، لكن بعد ذلك فكر ضابط المخابرات بتجنيد الطفل، ورغم خطورة المهمة، اقتنع الضابط أن الطفل سيؤديها بنجاح، وبدأ ينفرد بالطفل لبعض الوقت دون أن يلاحظ والده، وعرض عليه أن يساعده في الدخول إلى مواقع العدو الإسرائيلي في سيناء، ووجدت الفكرة قبولا لدى الطفل، الذي لا يعرف هوية الضابط لكنه متحمس.
وبسبب روح الدعابة التي امتلكها الطفل، وبراءة يحبها كل من يتحدث إليه، اهتدى الضابط إلى الفكرة، بأن يدخل صالح مواقع الإسرائيليين بائعا للبيض، مقابل عبوة من التونة أو المربى، وبالفعل وصل إلى الموقع الأول ونجح في تكوين صداقات مع الجنود والضباط اليهود، من أبرز أصدقاء "صالح" ضابط يهودي من أصل يمني يدعى "جعفر درويش" من مواليد جيحانة في اليمن وكان قائدا للنقطة 158، المسماة بموقع الجباسات.
وبعد أن كان "البيض" طريقة إلى هدفه، بدأ صالح يتحرك بحرية داخل المواقع الإسرائيلية، يجمع المعلومات من خلال الملاحظة المستمرة، دون أن يشك فيه أحد، ويجمع معلومات أخرى من ثرثرة طويلة مع أحد الضباط، الذي لا يتوقع أبدا أن يكون هذا الطفل البريء الماثل أمامه، أحد جنود المخابرات المصرية.
نجاح بنسبة 100% في كل مهامه
نجح "صالح" في جميع مهماته، وقد دلت المعلومات التي نقلها للمخابرات المصرية على ذلك، حيث تعرف على الثغرات في حقول الألغام المحيطة بأربعة مواقع مهمة بها المدافع الثقيلة، بالإضافة إلى مولدات الكهرباء، ووضع خزانات المياه، وبيان تفصيلي عن غرف الضباط، وأماكن نوم الجنود وأعداد الحراسة الليلية وكافة التفاصيل الدقيقة حتى الأسلاك الشائكة، وكان الطفل يستطيع رسمها أيضًا، ومع تعليمات ضابط المخابرات استطاع الطفل التمييز بين أنواع الأسلحة.
وظل الطفل ينقل لضابط المخابرات ما يدور داخل المواقع، وبناء على تلك المعلومات يرسم جهاز المخابرات الخطط المستقبلية لكيفية الاستفادة القصوى من الطفل مع توفير أكبر قدر من الأمان والرعاية له، وفي كل لقاء سري يجمع بين الضابط والطفل، يروي صالح ما شاهده دون كلل أو ملل، واستمر على هذه الحال حتى سبتمبر عام 1973، أي قبل حرب أكتوبر بشهر واحد.
أخطر المهام
قبل الحرب بشهور قليلة، تم تزويد ضابط المخابرات الطفل بأجهزة تنصت، ودربه على كيفية وضعها في الأماكن الخفية، بغرف قادة المواقع التي يتردد عليها وطريقة لصقها من الوجه الممغنط في الأجزاء الحديدية المختفية كقوائم الأسرة وأسقف الدواليب الحديدية، ولم يكن سهلا أن يقتنع "كيلاني" بإمكانية أن يقوم الطفل بهذه العملية الخطيرة لما فيها من احتمالية سقوط الطفل بين أيدى الإسرائيليين إذا عثروا على هذه القطع المعدنية واكتشفوا أنها أجهزة تنصت، وهنا انتصرت رغبة الطفل القوية على كل المخاطر وحصل بالفعل على المهمة، والأهم من ذلك أنه نجح فيها، فبعد سنوات من التردد على مواقع الصهاينة، أصبح الكل يعرفه ويمشي بحرية داخل أي مكان يريده.
ومكنت تلك العملية التي قام بها الطفل باقتدار، المخابرات من الاستماع من خلال أجهزة التنصت تلك إلى كل ما يدور داخل حجرات القيادة من أحاديث وأوامر، وعرفوا كيفية التعامل مع هذه المواقع أثناء العبور.
حياة جديدة وتكريم عظيم
وبعد هذه العملية، خطط جهاز المخابرات لنقل الطفل وأسرته إلى القاهرة بعد الانتهاء من جميع مهامه بنجاح، قبل الحرب، ولم يكن الأمر سهلا، فقد نقل صالح وعائلته من الصحراء إلى "ميت أبو الكوم"، مسقط الرئيس الراحل أنور السادات ليجدوه في استقبالهم بنفسه، ثم توجه إلى مبنى المخابرات المصرية، ليجد الأعرابي الذي تعامل معاه خلال حرب الاستنزاف مرتديا زيا مدنيا، وأفصح لأسرته عن الحقيقة كاملة، وأمام بطولات الطفل الصغير، وجد الضابط "محمد علي كيلاني" أنه لا بد وأن يرعى "صالح" تعليميا، حتى صار ضابطا في المخابرات.