في إحدى حارات منطقة عابدين في الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم الأحد الماضي، صرخات متتالية تدوي المكان يسمعها أهالي منطقة باب المنشر، تعلوها كلمة "إلحقونا" فبدأ البعض يفتح نوافذ شقته والبعض الآخر يفتح شرفته ويخرجوا ليتأكدوا مما سمعوه من استغاثة، وكانت المفاجأه، دخان كثيف يملأ المكان ويحجب الرؤية عن أنظارهم، وانخفض صوت الصراخ ولايعلم أحد ماذا يحدث؟ ولم يدركوا أن وراء انخفاض الاستغاثة بل اختفائها هو التهام النيران لجسد المستغيثة حتى زهقت روحها.
عقار بحالة جيدة مكون من 5 طوابق، شقة بالطابق الثالث مكونة من غرفتين وصالة متوسطة الحال، بها أسرة مكونة من أب وأم ابنتهم المطلقة وطفلتيها.
عم"سيد" المحبوب من الجميع مؤذن الحارة الذي يراه الجميع 5 مرات في اليوم مع كل صلاة، صاحب السيرة العطرة منذ 30 سنة، وسط أهالي المنطقة كان في شبابه يكسو الجميع بالملابس كونه "ترزي" وعندما بلغ به العمر أصبح يكسوهم بالعبادة والصلاة، والحاجة "روحية" زوجته الطيبة صاحبة اللسان الحسن التي شهد لها جميع جيرانها بحسن الأخلاق التي تتسم بروح الأمومه مع الجميع، وابنتهم "رشا" التي لم يحالفها الحظ الحسن في الزواج وتطلقت من زوجها وعادت تقيم مع والديها ومعها 2 من ملائكة الرحمة "بنتين" في عمر الزهور.
يوم الأحد الساعة 9.30 صباحًا سمع جيران العقار 11 باب المنشر المتفرع من شارع حسن الأكبر بمنطقة عابدين، سمع "إبراهيم" ساكن بعقار مجاور لعقار "التكييف" كما أطلق عليه بعد الحادث صراخ الحاجة "روحية" وهي تستغيث وعندما فتح نافذة شقته ليري من أين يأتي الصراخ، ولكن شدة الدخان أصابت المنطقة بالغيوم التي حجبت الرؤية، وبدأ الجميع يترك منزله للبحث عن مصدر الحريق الذي صعد منه كمية الدخان الكثيفة هكذا، واستيقظ سكان العقار 11 على حالة من الاختناق من رائحة الدخان ولم يعلموا أن جيرانهم سكان العقار تزهق روحهم واحدًا يتلو الآخر داخل شقتهم، ثم تم إخطار مرفق الحماية المدنية، بنشوب حريق هائل بالمنطقة ولا يستطيع أحد تحديد مكانه، حتى أتى "خالد" الرجل الشهم الذي ترك الجميع وصعد للمنزل بحثا عن سبب الدخان المتصاعد منه حتى وجد النيران تلتهم باب شقة عم "سيد" فقام بكسر الباب فوجده جالسًا على الأرض يستغيث والنيران تملأ الشقة بالكامل، فأخرج الرجل المسن قليل الحيلة الذي لم تصبه حروق النيران ولكن أصابه اختناق شديد وبدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة واحدة تلو الأخرى، بعد مرور نصف ساعة وصلت عربات المطافي والإسعاف للمنطقة، واستقبلت أول سيارة إسعاف "رب المنزل" ونقلته للمستشفى لتلقي العلاج لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة، وبدأ رجال الحماية المدنية عملهم في السيطرة على النيران، وآنذاك قام شباب المنطقة وجيرانها الدخول للشقة محاولين إنقاذ باقي سكانها، فعثروا علي الحاجة "روحية" في حالة تفحم وقد زهقت روحها، ثم عثروا علي جثة طفلة، وبعد استمرار ما يقرب من ساعتين تحاول رجال المطافي السيطرة على النيران، حتي تم إخمادها، وبدأ البحث عن ابنتهم وطفلتها الأخري، حتي سمع بعض الأهالي صوت استغاثة من داخل محل لتصنيع "الشنط الحريمي" وبه نيران مشتعلة.. حاولوا كسر القفل، ولكون الباب حديد كان شديد السخونية لم يتمكن أحد من فتحه، وأتى رجال الحماية المدنية بـ"صاروخ" لقطع الباب ولكن روح "رشا" وطفلتها لايتحملان النيران وزهقت روحهم ولم تكتفي النيران بذلك بل التهمت المحل بالكامل.
سؤال حير الجميع
لماذا وجدت "رشا" وطفلتها في المحل المطل على منور العقار ولم تكن داخل الشقة، ورغم ذلك أصابتها النيران الملتهبة؟ وحلل الجميع أن غرفتها بها نافذة مطلة على المنور وربما من شدة النيران قفزت بطفلتها محاولة الهروب من أن تلقى مصير مؤلم بحريق، ولكنها لاقت الأكثر ألما "إنه غياب العقل من الصدمة" كما قال البعض.
وبصوت يملؤه الحزن والألم تحدث سكان الطابق الرابع، عن الحادث أنه فاجعة لم يروا مثلها من قبل، ومع من؟ الرجل الطيب كما وصفه "محمد" جاره بالطابق الأعلى، حالة من القهر يشعر بها على فراق عم"سيد" وعلى قلة حيلته في إنقاذهم "النار كانت شديدة ومقدرتش أقرب من الشقة" ثم صمت وطلب لهم الرحمة، وساكن آخر لم يختلف حديثه عن السابق الجميع أشادوا بحبهم لهذا الرجل وعائلته.
المشهد الأول
عند دخولنا الشقة ورؤية ما فعلته النيران بها وجدنا النيران التهمت محتوياتها بالكامل عدا " كلام الله" المصحف تأكل غلافه الخارجي، ولكن لم تمس النار صفحة واحدة من صفحاته، وهنا تأتي الحكمة من الله للجميع تسطيع النيران أن تلتهم كل شئ الجسد والجماد والنبات وتفشل في أن تلتهم دستور الإسلام والمسلمين، القانون المستمر معنا حتى نهاية الحياة "كلام الله".
المشهد الثاني
حاولنا التوصل لأحد من سكان باقي شقق الطابق الثالث، ولكن لم نجد أحد وبسؤالنا عنهم كان الرد الجميع خاف على نفسه وأطفاله وتركوا المكان.
المشهد الأخير
وانتهت العائلة الكريمة صاحبة السيرة الطيبة، وأخر لحظاتهم في الدنيا دخولهم مسجد السيدة نفيسة، جثث محمولة على الأكتاف، صلى الجميع عليهم صلاة الجنازة وانتقلت الـ5 جثث لمثواهم الأخير في مشهد يملئه الوجع والحسرة.
جدير بالذكر، أن تلقت غرفة عمليات النجدة بمديرية أمن القاهرة، بلاغا من الأهالي بنشوب حريق هائل بإحدى الشقق بحارة باب المنشر المتفرعة من شارع حسن الأكبر بمنطقة عابدين، على الفور تم إخطار رجال الحماية المدنية التي دفعت بسيارات الإطفاء للسيطرة على النيران، بعد إخماد الحريق انتقلت قوة أمنية من ضباط قسم عابدين للفحص والمعاينة، وأشارت المعاينة الأولية أن "التكيف" هو سبب إشتعال النيران بعد حدوث ماس كهربائي، حرر المحضر اللازم للعرض على النيابة العامة التي أمرت بإنتداب رجال الأدلة الجنائية للكشف عن سبب الحريق، وأمرت رجال المباحث بعمل التحريات اللازمة عن الواقعة في إنتظار تقرير الأدلة الجنائية لتأكيد وجود الشبهه الجنائية من عدمه.