الساعة العاشرة مساءًا في حي هادئ وشارع يملؤه السكون، كل شئ على مايرام، فيما عدا هذا البيت المجنون! مجنون لأنه لا يكاد يمر عليه نصف ساعة إلا وتدب فيه الحيوية والنشاط ويملأ الحي كله بالصراخ والإحتفالات أو الإنفعالات، لم لا فهم اعتادوا متابعة مباريات كرة القدم خلال الـ 24 ساعة، حتى في اليوم الذي يخلو من المباريات يهتمون بمشاهدة الاستوديوهات التحليلة لفهم ما يحدث خلف الكاميرات وفي أذهان المدربين.
ولكن من أين يأتي مصدر النزاعات داخل ذلك المنزل وكلهم عاشقون للساحرة المستديرة وذوو إهتمامات واحدة.. نعم أولوياتهم موحدة فيما عدا شئ واحد فقط، فنصف البيت مكسو باللون الأحمر والأخر بالأبيض، يجتمعون على حب الكرة ويختلفون في عشق قطبيها، ويوم تلو الأخر يظل الحال كما هو عليه حتي حدث في يوم وأن انطلقت صرخة من بينهم، لكنها غريبة على أذانهم، فهي ليست صرخة احتفال أو تشجيع ولكنها صرخة "ولادة".
عقارب الساعة تدق ونبضات قلبه تقلدها بنفس الإيقاع وكأنهما يتدفقا من نفس المكان، وهو جالس يراقب عقرب الثواني يتحرك ببطء، ثم يهم واقفًا حينًا ويعود ليجلس أحايين أخرى فقدمه لاتستطيع حمله أكثر من 5 دقائق في ظل حالة من التوتر تسود المكان والصمت الذي سيطر على الحضور، حتى خرج الطبيب من غرفة العمليات وطمأنه: "مبروك رزقت بولدين"، وهو يسمع صوت بكائهما ويجلس على الأرض فرحًا بعدما فقد السيطرة على قدميه، ويحاوطه كل الأقارب والأحبة لمباركته ومشاركته لحظات سعادته، ونصفهما يمزح معه في أنهما ولدا ليلعبا الكرة في الفريق الأبيض والأخرون يعترضون بضحكات رسمت على وجوههم ويتحدثون عن مستقبلهم مع الفريق الأحمر، ولم لا وأبوهما أحد لاعبي كرة القدم المعتزلين، وهو لايشعر بأحد، يريد فقط أن يرى وليا العهد، حتى سمحت له إحدى الممرضات بالدخول لإلقاء النظر عليهما.
عندما وقعت عيناه على جسديهما، ويديهما المنكمشتين، وأقدامهما الصغيرة التي تكاد تكون في حجم إبهامه، تمنى أن يراهما لاعبا كرة مثله، لكن أكثر شهرة وتحقيقًا للإنجازات، فتمنى أن يلعب أحدهما للفريق الأحمر، والأخر للأبيض لما يمتلكاه من شعبية طاغية في بلاده وفي منزله الصغير، على عكس أحد أندية الشركات التي كان يلعب لها.
منذ هذه اللحظة ولد معهما حلمهما الذي لازمهما طوال مشوارهما بأن يصبحا لاعبين بقطبي الكرة، ولم لا فقد كادا أن يختارا هذه الطرق عندما يكبران حتى إن لم يقررها لهما أبوهما، فكلاهما ولع بكرة القدم وأحدهما عشق الفريق الأبيض، وانضم للجانب المتعصب للفرسان، والأخر أحب الأحمر وانحاز للجزء التابع لهم في البيت.
كبر الصغيران ونمى معهما حلمهما وزاد شغفهما للعب لأندية القمة، وعلى الرغم من أن طريقهما كان واحدًا، لكن لكل منهما هدف مختلف، فالطفل الأول ينام ليحلم بالفريق الأحمر والثاني يستيقظ في ساعات الليل المتأخرة لمتابعة أخبار غريمه، وبمرور الأيام أصبحت غرفتهما الصغيرة مقسمة لجزئين، أحدهما معلق عليه علم أحمر ويحيطه صور لاعبي الفريق ونجومه والأخر يحمل علم أبيض يتوسطه خطين حمر، ويجاوره بعض جمل التشجيع وصور لأساطير الفريق، فأصبحا يتشاركان نفس الإهتمامات ويلعبان في نفس الفريق وبنفس المركز لكن أهدافهما مختلفة.
وذات يوم أستيقظ لاعبا المستقبل في نشاطهما المعهود وأرتديا ملابس الكرة الخاصة بهم، قبل أن يتجها للنادي الذي كان يلعب فيه أباهما من قبل وهما حاليًا ضمن صفوفه، لمواجهة أحد الفرق الكبرى في كرة القدم وكل منهما يأمل نفسه أن يتألق ويلفت الأنظار له، وبالفعل بدأت المباراة وبدأ التصفيق والتشجيع من المدرجات الممتلئة بالجماهير التي لم يعتادا عليها أثناء لعبهم في صفوف هذا الفريق، فطبيعي أن الفرق الجماهيرية لها مذاق حسي أخر وحماس يزداد كل ثانية مع ارتفاع هتافات مشجعيها، ولكن حدث ما لم يصل إليه سقف توقعاتهما، فعندما تصل إليهم الكرة تصمت الجماهيرالتي ملأت المدرجات لتشجيع الفريق المنافس، لتنتظر مشاهداتهما وهما يقدمان أداءً قويًا لم يظهراه من قبل وكأن تشجيع الجمهور للفريق المنافس حرك فيهما روح الفوز، ليبدأ بعد تلك المباراة إسم التوأم في السطوع كل يوم أكثر من ذي قبل، ونصف البيت الأول يضع أماله على لاعب الأبيض المقبل والنصف الثاني يأمل نفسه بموهبة نجم الفريق الأحمر المقبل.
حتى جاءت اللحظة المعهودة التي يتحقق فيها حلمهما فبدأ الفريقين في مفاوضة التوأم، وكلٌ يعرف وجهته المقبلة، وهما يتفاوضان الأن بعد أن أصبحا على بعد عدة خطوات قليلة من تحقيق أحلامهم.
ولكن تشاء الأقدار لتتغير الأمور، ويدخل فريق جديد في خطوط المفاوضة "بيراميدز" أحد الأندية الاستثمارية من الطراز الأول، يعرض على اللاعبان أضعاف ما سيحصلون عليه من القطبين الكبيرين، ومسؤولو الفريقين يضغطون على اللاعبين بحلم اللعب لفريق جماهيري والشهرة الواسعة التي سيحصلون عليها من داخل جدران قلاعهم، بينما يرفع بيراميدز المقابل المادي.
جلس التؤام يتحدثان في العرض المالي الكبير المقدم لهما وهم لا يعلمان إلا أن هذا المبلغ كافي لتحقيق كافة أحلامهما ماعدا حلم واحد وهو اللعب لفريق جماهيري، فأسرع أحدهما لجلب ألبوم الصور الذي يتقاسماه، وفتحه وبدآ يشاهدان صور اللاعبين الموجودة بداخله وهما يعلقان على كل صورة تراها عينهما، فبدأوا الألبوم بصورة حسنى عبد ربه، أحد أبرز اللاعبين الذي ضربوا أروع الأمثلة فى الوفاء لأنديتهم فى الكرة المصرية حيث رفض جميع العروض المغرية التى انهالت عليه من قطبي الكرة في مصر، فرفض لاعب الإسماعيلي الإنضمام للأهلي وعدد من الأندية الأخرى حبًا في الدارويش وقرر البقاء مع فريقه وبذل أخر قطرة عرق داخل الملاعب مرتديًا القميص الأصفر.
ووجدا في الصفحة المقابله له من نفس الألبوم صورة محمد أبو تريكة، فعلق محب الفريق الأحمر على الصورة أن "تريكة" رفض عدد كبير من عروض الإحتراف الخارجي ذات المقابل المادي الكبير حبًا في القلعة الحمراء وجماهيرها.
قبل أن يطويا الصفحة ليجدا صورة عبد الوحد السيد، نجم الزمالك السابق والذي قضى 23 عامًا داخل جدران القلعة البيضاء، فأضاف مشجع الزمالك أن "وحيد" -كما يحب مناداته- رفض الإنتقال للأهلي 3 مرات بمقابل مادي أكبر من الذي يتقاضاه في الزمالك حيث أن انتمائه للكيان الأبيض هو ما أنهى الموضوع ببقاءه داخل صفوف الفريق.
وبالاستمرار في تقليب الصفحات وجدوا صور أحمد عادل عبد المنعم، حارس مرمى الأهلي السابق ومسعد نور لاعب النادي المصري البورسعيدي الأسبق الذي رفض الإنضمام للزمالك عنندما علم أن المصري في حاجة لجهوده رافضًا كافة الإغراءات المادية التي عرضت عليه.
توقف أحدهما عن تقليب الصفحات وتسأل.. ولماذا الإنتماء؟ يمكننا أن نشجع فرقنا من المدرجات لكن هذه اللعبة هي مستقبلنا ومهنتنا، كما يحدث في أغلب الفرق الأوروبية.
قبل أن يتسأل قرينه، "وحب النادي والدفاع عن ألوان قميصه !! " ألا يمثل كل هذا شئ بالنسبة لك ؟..
فرد عيله سريعًا.. أصبحت كرة القدم جزءًا لا يتجزأ من الاستثمار، وبات اللاعبون يعرضون أنفسهم على الأندية ذات الموارد المالية الأعلى، بدأت بعرض حسام حسن، لاعب الفريق الأول بطلائع الجيش خدماته على "بيراميدز"، للانضمام لصفوفه خلال الفترة المقبلة، ليصبح أحد العناصر البارزة التي يتفاوض معها الفريق.
وتوالت بالتفاوض مع شيكابالا وضم الشناوي وعلى جبر من صفوف الفريق الأبيض، وعمر جابر الذي صرح من قبل أن انتماءه للفريق الأبيض يمنعه من اللعب في مصر في أي فريق غير الزمالك.
"العصر مختلف والفكر والأنتماء كذلك أصبحا مختلفين أيضًا، فمعظم اللاعبين الأن لا يعرفون قيمة قميص الأهلي والزمالك، وقليلون الذين لا يعتبرون لعب الكرة مجرد "بيزنس ".
والإدارات أًصبح لها دور في صناعة الانتماء والحب لجدران النادي، لأن الانتماء الآن أصبح للمادة بشكل أكبر من الفرق، والأن أصبح الانتماء مقتصر فقط على عدد قليل من اللاعبين الذي تربوا داخل الأندية ونشأوا في مدارس الكرة وقطاعات الناشئين بها.
والأجيال القديمة عاشت معني أن يكون هناك انتماء والتزام ورغبة الفوز حبًا في النادي قبل أن يصبح مجرد عملة نادرة. "هكذا قال أيمن يونس نجم نادي الزمالك"
“الإنتماء الحقيقي للاعبين الأن أصبح لأنفسهم و للقميص الذي يرتدوه، وكرة القدم هي وظيفته فهو يعرض خدماته وخبراته على الفرق ومن يقدره بثمن أغلى فيستحق أن يدافع اللاعب عن ألوانه”
"والاحتراف هو ان تنتمي للفريق الذي تلعب ضمن صفوفه وتقدم له أفضل مستوياتك، واللي ملهوش خير في تيشيرت فريقه ملهوش خير في حد، والأجيال السابقة لم يكن الاحتراف متوفرًا لها بشكل كبير فلماذا يتم المقارنة دائمًا بينهما" هذا ما وضحه طه إسماعيل لاعب الأهلي الأسبق..
قبل أن يرن الهاتف، ليسرع أحد التؤمان للرد.. ليسمع رغبة الفريق الإستثماري في رفع قمية التعاقد إذا وافق على الإنتقال لصفوفهم، سماع الرقم الكبير جعل اللاعب الشاب يوافق دون أن يفكر في شئ سوا تأمين مستقبله، ليمضي على العقود و يرتدي القميص الأزرق !!
على عكس توأمه الذي رفض كل الإغراءات المادية واكتفى بإنتماءه لفريقه وحقيق حلمه وحلم عائلته الكروية جدًا.
لتظهر علينا مواجهة جديدة تفرض نفسها على الساحة الرياضية ولكن هذه المرة من شأنها تغيير خريطة الكرة في مصر كما حدث في فرنسا بظهور باريس سان جيرمان، فالمباراة القائمة على الساحة الأن هي مواجهة الأموال و الإنتماء، فهل يقتل الأول الثاني أم يرجح اللاعبون كفة الثاني لكسب الجماهير كما فاز بهم أساطير الكرة المصرية من قبل؟