«أنا عارف مين هما طروادة بالاسم، وهما اللى ولعوا فى المحكمة، ورموا عربية البوكس فى البحر».. بتلك الكلمات التى قد تكون عابرة بالنسبة للكثيرين، أخْرَسَ «محمد.ع» صاحب الأربعة والعشرين عامًا، ألسنة جميع الحضور فى ذلك البهو الذى اتسع للأصدقاء الذين فرقتهم الحياة، فبعضهم مختف منذ عام لا أحد يعلم عنهم شيئًا، والبعض الآخر مشغول بالدراسة والعمل.
كان مرض أحدهم سببا كافيا لجمعهم فى بيته، إلا أنهم جميعًا فى حالة اندهاش ومفاجأة لظهور صديقهم الذى اختفى قرابة عام ولا أحد يعلم عنه شيئًا، فمنذ أن ألقت قوات الأمن على المدعو «عمرو.ا» أحد الشباب المشاغبين الذين كانوا يمارسون أعمال العنف، ويتفاخر بذلك، إلا أنه أطلق عليه لقب «الحر» بعد أن تم وضعه خلف قضبان سجن الزقازيق العام، وللأسف مع فتح تلك الملف ارتفع صوت المناقشة لأعلى حد حتى أزعج الجيران وأهالى البيت.
وظل الوضع هكذا مزعجا، حتى أطلق «محمد» الذى كان يفضل الاستماع دون التدخل فى النقاش تلك الجملة التى أخرست الجميع، فـ«طروادة» حركة ظهرت ما بعد الثورة، وفى العديد من الأعمال الإرهابية كانت تكتب لتثير استفزاز الأمن، وظل ملف «طروادة» اللغز الحائر حتى تم القبض على مجموعة من الشباب، حينها خرج الجميع بألسنة الحرية يقولون إن هذه «اعتقالات عشوائية» ويطالبون بإسقاط الظلم، ومنهم «محمد»، الذى قلب الطاولة تمامًا.
انتبه الجميع نحو ذلك الصوت المبحوح الذى خرج من «محمد» وتربعوا ليستمعوا لباقى الحديث وهم فى صمت كما لو كانوا أصناما: «عمرو صاحبنا اللى اتقبض عليه من طروادة فعلًا، وأنا كنت معاهم للأسف بس دول ولاد... (لفظ خارج)»، الأعين توسعت والتركيز اشتد، والعقول انجذبت، والأذن أصغت أكثر لـ«محمد» فما يعرفونه أنه كان معترضا على اعتقال «عمرو»، إلا أنه يعترف بأن عمرو تابع للحركة الإرهابية، ويعترف أنه أيضًا كان معهم.
الفضول وصل أعلى درجاته عند الجميع، إلا أنهم خائفون من فتح الحديث وباب النقاش فى هذه القضية الخطيرة لذا سيطر الصمت وعم الهدوء للحظات، حتى قطع تلك الموجة صوت «صلاح» أحد أصدقاء محمد بقوله «يعنى أنس مطلعش حر، وكمان هو مش مظلوم؟»، من الصعب أن يعترف محمد بخطئه ويرى أن الأمر ما عاد يتطلب شجاعة وأنه حان وقت تبرئة نفسه فقط: «الإخوان هما اللى عملوا فى كده!».
وتيرة التشويق فى الحديث ارتفعت، فهناك العديد من بين الجلوس يرون أن «الإخوان» جماعة إسلامية ليس لها علاقة بالعنف لا من قريب ولا من بعيد وأن حبسهم ظلم وعدوان، إلا أن «شاهد من أهلها» يتحدث، لذا اندفعوا جميعًا فى نفس واحد، «ما معنى كلامك يا محمد، لو سمحت؟»، الشاب الطروادى يدهش أصدقاءه بما يقص: «من الآخر كده مكنش فيه حاجة اسمها سلمية فى الأيام الأخيرة للمظاهرات، السلمية ممكن كانت زمان، حتى المظاهرات كانت مسلحة».
«المحكمة اللى اتحرقت واتكتب عليها طروادة، عمرو الحر هو اللى كان كاتبها، وهما عرفوا، والبوكس اللى اترمى فى البحر إحنا اللى راميناه، والظابط اللى انضرب، طروادة اللى علمت عليه، ومتدخلونيش فى تفاصيل أكتر من كده».
شغف الجالسين للمعرفة كان أقوى من صمت واحتفاظ «محمد» وحده بالحقيقة، فبعدما طالبهم بعدم الحديث فى تفاصيل أكثر من ذلك خوفًا على نفسه، أعطوه هم الأمان حتى يطمئن قلبهم أن «عمرو» وغيره من المعتقلين غير مظلومين، وأنهم متطرفون ونفذوا مخططات إرهابية، وأخذ «محمد» يفند العمليات الثلاثة التى حضرها مع فريقه آنذاك «طروادة» التابع لجماعة الإخوان الإرهابية.
ليلة الرابع من إبريل عام 2014، كانت هناك توكيلات لمرشحى الرئاسة موجودة بالشهر العقارى، وكانت حينها النيران مشتعلة داخلنا، لأنه ما زال يوجد رئيس شرعى (على حسب تعبيراتهم) يحكم البلاد، وكانت هناك بعض الدروس التى أخذناها أن الدفاع عن الإسلام أمر واجب، وبعض الصحابة قادوا إحدى الغزوات وهم فى سن السادسة عشرة من عمرهم، لذا كنا نرى أننا ندافع عن الإسلام بالدفاع عن الجماعة وبقائها على رأس الحكم.
«فيما أنتم تلهون ليلا بالمذاكرة؛ كنا نحن نجاهد».. كلمات صدمت جميع الحضور، نابعة من فكر إرهابى ومتطرف صرف، فهو يرى أن المذاكرة لهو، ويوضح أن تحضير المولوتوف لإشعال الحريق فى المحكمة جهاد، بنسبة كبيرة تغيرت وجهة نظر الحضور جميعًا بالنسبة لنظرتهم للجماعة المتأسلمة، فيما يبدو لهم أن هذا ليس فكر شاب سوى فى ريعان شبابه.
وسط الجالسين، كان لا يزال «صلاح» منتبهًا بشكل جيد لكلام «محمد»، لذا هز رأسه بقوله «يبقى كلام الحكومة اللى كذبناه وقتها كان صحيح؟»، لم يرد «الطروادى» على السؤال، وتابع حديثه: «منتصف الليل حتى قبل صلاة الفجر بربع ساعة، كان هذا الوقت كافيا لنا بأن ننفذ العملية وننتهى منها، حيث كنا نستخدم الدراجات البخارية وكنا نعد المولوتوف من بيت (ع. س) لأنه قريب من المحكمة».
المخطط لم يتم كما هو مرسوم ولم تتحقق أمنيتهم، إلا أن القيادات كانت سعيدة به كما شعر «محمد»: «قمنا بإلقاء المولوتوف على المحكمة، فالتهمت النيران المدخل، وتمكنت الحماية المدنية من إخماده، قبل أن تمتد للمحكمة بأكملها، وحرق التوكيلات ولكن فى الآخر عجبهم وخلاص، فيما كان الجميع منشغلا بالمدخل وإخماده كننا نكتب على الباب الخلفى من المحكمة كلمة طروادة، لنَرْوِش الحكومة بتلك الحركة».
لم تمر سوى أيام قليلة إلا وكان شباب «طروادة» معتدين على ضباط المباحث، الأمر الذى جعل قوات الأمن يحكمون سيطرتهم حتى ألقوا بالقبض على «عمرو الحر»، حينها ارتفعت وتيرة غضب «الطواردة»، وهنا كانت بداية الخلاف بيننا وبين الجماعة: «بعدها لقيناهم بيقوللنا لازم تهدوا الأيام دى شوية عشان هما خلاص، طالما وصلوا لواحد، هيوصلوا للباقى».
الجميع يريد أن يعلموا رد الفعل فى تلك الجلسة التى أصبح مَلِكَها «محمد»، لذا رد على سؤال أحدهم: «وماذا فعلت بعد ذلك؟»، بقوله: «الجماعة باعت صاحبنا اللى اتاخد، وقالولنا إنه أحسن من اللى بره، وثوابه عند ربنا أكتر مننا، وللحفاظ على أنفسكم، اخمدوا، لكننا لم يهدأ لنا بال، لذا قمنا بإلقاء عربة بوكس فى المياه بالزقازيق، ويومها تم إطلاق الخرطوش علينا، إلا أن ثمة أمر خطير حدث ولم أجد له تفسيرا حتى الآن!».
يحكى «محمد» عن ذلك الموقف الذى لا يوجد له سوى تفسير واحد، وهو أن المظاهرات غير سلمية: «فى يوم من المظاهرات فى الزقازيق كنا قدام المحافظة، حصل ضرب واشتباكات بينا وبين الأهالى والأمن تدخل وقتها، مع دخول الأمن أنا لقيت فى شاظية فى رجلى من ورا، واللى كان ورانا القيادات بتاعت الجماعة فوق أربعين عاما، واللى منظمين للمظاهرات، بصيت ورايا للأسف ماشوفتش سلاح، وبعد دقايق انسحبوا والضرب اللى من ورا وقف».
«صلاح» كان محبا للإخوان وتشغله عدة أسئلة فى غاية الأهمية، لذا دار بينه وبين «محمد» حوار سريع، فسأله: «إذًا كانت هناك مظاهرات مسلحة للإخوان؟، وأين تعلمتم ذلك؟»، ليجيب بشكل مايع: «هو أنا قلت كده؟، أنا باقول فيه رصاصة جاية من ورا! أما عن تعليم ذلك الفكر وكيفية تنفيذ تلك العمليات، فالمعسكرات وتكوين حياة فى فضاء الصحراء كان مساعدا جيدًا على التدريب، وللأسف لم نكن نعلم أن الموضوع سيؤهلنا لنكون منفذى عمليات مثل تلك».
سؤال آخر طرحه "صلاح": "كيف كنتم تقيمون حياة فى الصحراء؟"، ليجيب محمد: «كنا نأخذ جميع المعدات وننشئ الخيام التى تحمينا من درجات الحرارة الحارقة أو البرودة القارسة كما تعلمنا فى الكشافة، وطوال اليوم كانت هناك فقرات وندوات عن الغزوات والجهاد، ومثل هذه الموضوعات التى تؤهلنا نفسيا، وكنا فى غفلة من كل هذه الأفعال».
جميع الجالسين بالبهو اكتفوا بما سمعوا، كما أن «محمد» نفدت طاقته من الحديث، ولا يرغب فى إكمال الجلسة، إلا أن الأصدقاء، بعد فترة اختفوا فيها وتفرقوا، جمعتهم تلك الغرفة الواسعة الذين نشؤوا فيها، جمعتهم على حقيقة ربما كانت صادمة لبعضهم أو جميعهم، وأيقنوا أن هناك حربا ضروسا خاضتها الدولة ضد الجماعات الإرهابية.