موائد الرحمن في مصر.. عبق التاريخ يصارع أعباء الحاضر

السبت 01 مارس 2025 | 11:24 صباحاً
صورة ارشيفيه
صورة ارشيفيه
كتب : عامر عبدالرحمن

مع أول يوم صيام في شهر رمضان، تتجدد مظاهر التكافل الاجتماعي التي لطالما ميزت المجتمع المصري، وعلى رأسها موائد الرحمن، التي شكلت دائمًا مظهرًا بارزًا من مظاهر العطاء والتراحم. إلا أن هذه العادة العريقة، التي تمتد جذورها إلى قرون مضت، تواجه هذا العام تحديات اقتصادية غير مسبوقة، جعلت حضورها في الشوارع والساحات أقل بريقًا مقارنةً بالسنوات الماضية.

الغلاء يضعف موائد الرحمن

يستقبل المصريون رمضان هذا العام في ظل موجة غلاء غير مسبوقة، إذ شهدت أسعار السلع الغذائية، ومنتجات الألبان، واللحوم، والدواجن ارتفاعات متتالية منذ بداية العام، مدفوعةً بتراجع قيمة الجنيه أمام الدولار، حيث يبلغ سعر الصرف حاليًا نحو 50 جنيهًا للدولار الواحد.

وفي هذا السياق، أشار الدكتور عادل عامر، الخبير الاقتصادي ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى أن حجم الإنفاق على موائد الرحمن تراجع بشكل حاد. ففي عام 2018، كانت هذه الموائد تستحوذ على ملياري جنيه خلال الشهر الفضيل، بينما تقدر الأرقام الحالية للإنفاق عليها بين 40 و55 مليون جنيه فقط، وهو ما يعكس مدى التأثير العميق للأزمة الاقتصادية على هذه الظاهرة الاجتماعية.

تاريخ موائد الرحمن.. من الخلفاء إلى العصر الحديث

ترجع عادة إقامة موائد الرحمن إلى العصور الإسلامية الأولى، حيث كان النبي محمد ﷺ والخلفاء الراشدون يحرصون على إطعام الفقراء خلال الشهر الفضيل. أما في مصر، فكان أحمد بن طولون، الذي تولى الحكم عام 868 ميلادية، أول من أطلق هذه المبادرة على نطاق واسع، داعيًا الأمراء والأعيان إلى إقامتها.

ومع تطور الدولة الفاطمية، عزز الخلفاء هذا التقليد، إذ أمر الخليفة العزيز بالله الفاطمي بإقامة موائد ضخمة في "الجامع العتيق" (جامع عمرو بن العاص حاليًا) والأزهر الشريف، وكان يخرج من مطبخ قصره أكثر من ألف قِدر يوميًا لإطعام الفقراء والمحتاجين. كما أنشأ دار الفطرة، التي كانت مسؤولة عن تحضير وجبات رمضان والحلويات لتوزيعها في عيد الفطر.

وخلال العصور المملوكية، حرص سلاطين المماليك على وقف أموال خاصة لدعم موائد الرحمن، حيث أنشأ السلطان حسن بن قلاوون وقفًا لشراء اللحوم والخضر والأرز من أجل إطعام الفقراء طيلة الشهر. وفي العهد العثماني، استمر هذا التقليد في القصور والأماكن العامة، وإن اختلف حجمه من فترة إلى أخرى.

موائد الرحمن في العصر الحديث

مع بداية القرن العشرين، أحيا الملك فاروق هذا التقليد بإقامة مائدة ضخمة في قصر عابدين، ووجّه المحافظين لإقامة موائد مماثلة في مراكز المحافظات. وفي عام 1947، نشرت جريدة "المقطم" تقارير عن إقامة سرادقات رمضانية في الجيزة والمنيا، كان بعضها يتسع لألف فقير.

وبعد ثورة 1952، تولت هيئة التحرير - التنظيم السياسي الذي أنشأته الثورة - تنظيم موائد الرحمن في مختلف المحافظات، حيث نشرت جريدة "المصري" عام 1953 تقارير عن موائد أقيمت في كفر الدوار ومصر القديمة، وحضرها مسلمون ومسيحيون ويهود، مما يعكس روح الوحدة الوطنية التي ميزت هذه العادة.

وفي الستينيات، بدأ بنك ناصر في إقامة العشرات من موائد الرحمن كجزء من دوره الاجتماعي، قبل أن تنتشر هذه الظاهرة بشكل غير مسبوق في العقود التالية.

وفي عام 2024، أُقيمت مائدة إفطار رمضان السنوية في منطقة المطرية للمرة العاشرة على التوالي، في تقليد بات يُعرف باسم "إفطار المطرية"، حيث تستوعب المائدة نحو 10 آلاف صائم، ويسعى أهالي المنطقة إلى تحقيق رقم قياسي كأطول مائدة رمضانية في مصر.

وتشير بعض الدراسات إلى أن القاهرة وحدها كانت تضم نحو 40 ألف مائدة في السنوات الماضية، من بينها موائد ضخمة مثل مائدة "استاد القاهرة"، التي كانت تتسع لخمسة آلاف شخص.

وخلال جائحة كورونا، اتخذت موائد الرحمن شكلًا جديدًا، حيث لجأ الكثير من المتبرعين إلى إرسال وجبات الإفطار إلى منازل كبار السن وغير القادرين على الحضور، وهو النهج الذي استمر لدى بعض الجهات حتى بعد انحسار الوباء.

الكنائس تدخل على الخط

لم تقتصر موائد الرحمن على المسلمين فقط، بل كانت بعض الكنائس جزءًا من هذا التقليد، إذ نظّمت كنيسة مار جرجس في شبرا عام 1969 أول مائدة رمضانية، حيث شارك فيها المسلمون والمسيحيون على حد سواء، مما يعكس عمق التلاحم بين أبناء الوطن الواحد.

الوجه الجديد لموائد الرحمن

ورغم الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى تقلص عدد الموائد الرمضانية هذا العام، فإن مظاهر التكافل لم تختفِ تمامًا، حيث لا تزال بعض المساجد، مثل الأزهر والفتح ومصطفى محمود، تحافظ على إقامة موائدها، وإن كان ذلك بحجم أقل. كما أن بعض الشباب يوزعون التمر والمياه عند إشارات المرور، في محاولة للحفاظ على هذا التقليد بطرق مختلفة.

تبقى موائد الرحمن واحدة من أبرز مظاهر الشهر الكريم في مصر، تعكس روح التكافل الاجتماعي والتراحم بين أبناء الشعب. ورغم التحديات الاقتصادية، فإنها تظل شاهدًا على عراقة هذا التقليد ورسوخه في وجدان المصريين، الذين يجدون في رمضان فرصةً لإظهار أسمى معاني العطاء والمودة.

اقرأ أيضا