لم تكن نيران حرب العاشر من رمضان تتوقف وتنقشع رائحة البارود من فوق رمال سيناء، حتى مكثت معظم مراكز الدراسات والأبحاث في دراسة نتائج هذه الحرب الحديثة، وبعد كل هذه السنوات، التي مرت على انتصارنا في حرب العاشر من رمضان.
ويقول اللواء دكتور سمير فرج المفكر الاستراتيجي مدير إدارة الشئون المعنوية الأسبق، من أبطال الاستنزاف وأكتوبر، أن "جميع مراكز الدراسات الاستراتيجية، والكليات والمعاهد العسكرية، ما زالت تؤكد على أن ما قدمته هذه الحرب، في العلم العسكري الحديث، هو بالفعل، الركيزة الأساسية لعمليات التطوير في مجالات التسليح، والتنظيم، والتكتيكات، وأساليب القتال".
ولقد كانت العقيدة القتالية العسكرية الغربية، هي أكبر المستفيدين من دروس تلك الحرب، فقد كان الجانب الإسرائيلي يتبنى فكر العقيدة الغربية، بينما تتبنى القوات المسلحة المصرية فكراً جديداً، في مفاهيم القتال، عبارة عن مزيج بين الفكر الشرقي، التابع للعسكرية السوفيتية، مضافاً إليه خبرة قتال المصريين، في هذه الحرب الحديثة.
ويضيف " ما أظهره الجيش المصري، خلال حرب العاشر من رمضان، من أداء عسكري متميز، أجبر، جميع المراكز البحثية، ومعاهد الدراسات الاستراتيجية، والمحللين العسكريين، أن يدرسوا، وأن يحللوا كيفية نجاح هذا الجيش، في إلحاق هذه الهزيمة بالجيش الإسرائيلي، ويقطع اليد الطولى (الطيران الإسرائيلي)، التي طالما، تغنت بها إسرائيل بعد حرب 1967".
وتابع " على مستوى الأداء، فقد دفع ذلك "حاييم هيرتزوج" الرئيس الأسبق لإسرائيل، ومدير استخباراتها الأسبق، أن يكتب في مذكراته عن حرب أكتوبر، والتي نشرت في كتاب، "أن على جيش الدفاع الإسرائيلي، مستقبلاً، أن يكون قادراَ التشبه بنبات البانتا، الذي ينحني أمام الضربات الأولى، المخططة، والمنظمة للقوات المسلحة المصرية، ثم ينهض بعد ذلك ليكيل له الضربات، فالضربات الأولى، المخططة، للجيش المصري، دائماً ما تكون قوية ... وسريعة ... ومؤثرة."
ويشير " فرج " إلى أن ما حققته القوات المسلحة المصرية، من إنجازات، خلال حرب الاستنزاف ، ولاسيما عملية إغراق المدمرة "إيلات"، تلك العملية التي أدت إلى تغيير نمط التسليح وأسلوب القتال للقوات البحرية في العالم بأسره ، وكذلك بناء حائط الصواريخ المصري، غرب القناة، في فترة الاستنزاف ، ودوره الرائع، أثناء الحرب، في تحييد القوات الجوية الإسرائيلية، ومنعها من التدخل في عمليات عبور القوات المصرية للقناة.
وأردف قائلا " التكتيكات، وأساليب القتال الجديدة، التي نفذتها القوات المصرية في هذه الحرب، مما دفع المحللين العسكريين، إلى دراستها، والاستفادة منها ".
ويضيف " لعل ما يدعوني، ويدعو العسكرية المصرية، للفخر ، هو أن جميع المعاهد العسكرية، حول العالم، وخاصة ذات العقيدة الغربية منها، اعتبرت الدروس المستفادة من حرب أكتوبر 73، جزءاً لا يتجزأ من مناهجها الدراسية في دورات قادة السرايا، والكتائب، والألوية، وكلية أركان حرب، وكلية الدفاع الوطني، فقد كان تفوق القوات المسلحة المصرية، سبباً في تغيير العديد من مفاهيم القتال في العقيدة القتالية الغربية".
واستطرد " جاءت بشائر تأثيرات التغيير أثناء حرب الاستنزاف المصرية، وذلك بعد إغراق المدمرة الإسرائيلية "إيلات" ، حيث بدأت القوات البحرية، في كافة الدول، في التوقف، تدريجياً، عن بناء المدمرات الكبيرة وحاملات الطائرات والطرادات، ويبدأ الاعتماد على اللنشات السريعة ... الصغيرة ... ذات السلاح المتطور، لتأمين السواحل، والمياه الإقليمية ، وشرعت الدول في تطوير التدريع لهذه اللنشات، وتسليحها، مع التركيز على وسائل الحرب الإلكترونية بها والأجهزة الإلكترونية المضادة وأجهزة الرادار والتشويش " .
واردف " واليوم، أصبحت اللنشات الصاروخية، هي القوة الضاربة للقوات البحرية، في معظم الدول الغربية، وخاصة في أعمال تأمين القطع البحرية الكبيرة ، وهكذا، ومع انتهاء حرب أكتوبر 1973، قامت الدول الغربية بإعادة تنظيم وتسليح قواتها البحرية، انطلاقاً من الفكر الجديد، المعتمد على الخبرة والتجربة المصرية ".
أما التأثير الثاني في تغيير المفاهيم القتالية في العقيدة الغربية، فكان في مجال القوات الجوية، حيث أنه طبقاً لمفاهيم مبادئ القتال، فإن عمل القوات الجوية كان يعتمد من قبل على عنصرين هما "السيادة الجوية" Air Supremacy، بمعنى أن القوات الجوية تسيطر على ميدان القتال الجوي بالكامل، ولا تسمح للقوات الجوية المعادية بأي نشاط، والعنصر الثاني كان "السيطرة الجوية" Air Superiority، وهذه السيطرة تكون على ميدان القتال بالكامل، أو على جزء منه، أو لوقت محدد، وفيها يمكن أن تنشط القوات الجوية المعادية بتنفيذ بعض الأعمال ".
ويقول " وخلال حرب أكتوبر، أضافت القوات المسلحة المصرية عنصراً ثالثاً، في مفاهيم أسلوب استخدام القوات الجوية، وهو "تحييد القوات الجوية المعادية" Neutralizing Enemy Air Force، وهذا المفهوم الجديد، يعني أنه بالرغم من أن القوات المعادية، لديها قوات جوية ... قوية ... ذات كفاءة عالية ... وبأعداد كبيرة، تحقق لها السيطرة الجوية ... إلا أنها لا تستطيع المشاركة في ميدان القتال ، فقد ظلت القوات الجوية الإسرائيلية عاجزة عن تقديم أي عون جوي لقواتها الأرضية، نتيجة لنجاح المصريين في بناء حائط للصواريخ على الضفة الغربية للقناة، يمنع القوات الجوية الإسرائيلية من توفير غطاء جوي لقواتهم البرية، في الهجمات المضادة ضد القوات المصرية، التي اقتحمت قناه السويس " .
كما امتدت التأثيرات إلى تأثير ثالث، وهو إمكانية قتال عناصر المشاة المترجلة، دون قوة الصدم (الدبابات)، فقد كان المفهوم قبل حرب أكتوبر 73، أن قوات المشاة لا يمكنها التمسك بالأرض، منفردة، دون قوات مدرعة لأكثر من 3-4 ساعات، وهو ما كان ينطبق، غالباً، على قوات المظلات، أو على القوات المبرة جواَ، والتي تسقط بعيداً عن القوة الرئيسية ، ولذلك كان من الضروري أن تلحق بها القوات الرئيسية، وخاصة المدرعات، في مدة لا تزيد عن 3-4 ساعات ، ولكن جاءت حرب أكتوبر، وبتخطيط رائع وضعه المصريون، في التوجيه رقم 41، الذي تم إعداده بمعرفة لجنة رأسها الفريق سعد الشاذلي-رئيس الأركان، الذي أتاح لقوات المشاة العبور، بدون دعم، لمدة 12 ساعة، هي مدة إتمام إنشاء الكباري، وعبور الدبابات.
وهو ما تم التخطيط له باستخدام الأسلحة المضادة للدبابات، وبحسابات دقيقة للموجات الأولى من المشاة المترجلة، فتمكنت من صد، وتدمير الاحتياطيات المدرعة الإسرائيلية شرق القناة في "خط بارليف" ، وهذا أمر، لم يكن لأي مخطط عسكري أن يقبل به، قبل حرب أكتوبر 1973 ، فقد تم التخطيط لدعم كل كتيبة مشاة مترجلة بعدد من قواذف "أر.بي.جي"، ومعها الذخيرة الكافية ، حملها الجنود المشاة، ومعهم، لأول مرة، صواريخ المقذوفات الموجهة المضادة للدبابات، المالوتيكا الروسية ". ويضيف " بالرغم من أنها كانت من الجيل الأول، الذي كان يوجه بالسلك، وتتعرض دقة الإصابة لقدرة الجندي على التوجيه تحت نيران العدو، إلا أن كتيبة المشاة المترجلة، في رأس الكوبري، نجحت في صد الهجمات المضادة للمدرعات الإسرائيلية " .
أما المفاجأة الأخيرة، في التوجيه 41، تمثلت في أن كل جندي كان يحمل على صدره وظهره لغما مضاد للدبابات، فتكونت، لأول مرة في تاريخ الحروب الحديثة، ما يعرف باسم "الستارة المصرية المضادة للدبابات ، وهو نتاج فكر المصريين في حرب أكتوبر.
كما أشارت المراجع العسكرية الغربية، إلى أن المصريين نجحوا في غلق مضيق باب المندب ضد الملاحة الإسرائيلية ، فيما يعد أكبر مفاجأة من مفاجآت حرب أكتوبر، حيث استخدم المصريون قواتهم البحرية في باب المندب، بعيداً عن القوات الجوية للجيش الإسرائيلي ، ليقف الإسرائيليون عاجزون، طيلة أيام القتال، عن أي رد فعل ضد هذا العمل، وظل ميناء إيلات مغلقاً تماماً. وغيرها، والتي كانت، كلها، من أعمال الخداع التي حققت المفاجأة.
وكان التأثير السادس في إضافة بند جديد في مبادئ القتال؛ حيث كانت مبادئ القتال، في جميع العقائد القتالية، هي ... المفاجأة ... الحشد ... السرية ... الخداع ... المناورة ... الخ، فكان البند الجديد الذي تمت إضافته، بعد حرب 73، وهو استخدام "أساليب غير تقليدية في الحرب الحديثة" Non-Conventional Methods in Modern Warfare."
ويضيف " وعندما عرضت قوانين القتال الغربية هذا البند، فإنها بدأت منذ حصار طروادة، وصولاً إلى ما حققه المصريين في حرب 1973، من فتح الساتر الترابي باستخدام خراطيم المياه، وهو ما لم يتوقعه الإسرائيليون، إضافة إلى إغلاق أنابيب النابالم في خط بارليف ".
أما التأثير السابع، فتمثل في التأكيد على بعض مفاهيم القتال في العقيدة الغربية، والتأكيد على صلاحيتها للتطبيق. فقد تم التركيز على مفهوم By-Pass Policy، وهي أحد أساليب الاختراق في العقيدة القتالية الغربية، والتي تتلخص في أنه خلال العمليات البرية، وفي حالة التوقف أمام أي دفعات لمدة طويلة، فإن القوة البرية لا تتوقف ، بل تستمر ، تاركة خلفها قوات لتثبيتها حتى تسقط، وتستمر باقي القوات في الهجوم، وهو ما فعله المصريون في حرب 1973، عند اقتحام خط بارليف ، فلقد اندفعت الخمس فرق المشاة المصرية، لعبور القناة، متقدمة إلى عمق سيناء، تاركة وراءها نقاط خط بارليف، تتساقط تباعاً " .
ومضى "فرج" قائلا: " وجاءت حرب أكتوبر ، وظهر عامل جديد، لم يكن في الحسابات قبلها ، وهو الجندي المصري، الذي قال عنه شارون، في مناظرة عن حرب أكتوبر، أجراها معي شخصياً، وأذاعها التليفزيون البريطاني ، فعند سؤال الجنرال شارون عن وجهة نظره، فيما يراه المفاجأة في حرب أكتوبر، هل كان توقيت الهجوم في الثانية ظهراَ؟ هل كان اختيار موعد الهجوم، وهو عيد الغفران في إسرائيل؟ هل كان الهجوم على الجبهتين المصرية والسورية في وقت واحد؟ ... هل ... هل ...؟؟ فجاءت إجابته أن المفاجأة الحقيقية، في حرب أكتوبر، كانت الجندي المصري في عام 1973، الذي اختلف عن الجندي في عام 1967، أو عام 1956! فالجندي المصري عام 1973 كان من المؤهلات العليا (حاملي البكالوريوس) ، وروحه المعنوية عظيمة، وهو ما اعتبره أقوى من حساباتهم وتوقيتاتهم، ضارباً مثال أثناء هجوم منطقة الدفرسوار، إذ كان هو يقود سرية دبابات مكونة من 10 دبابات إسرائيلية في اتجاه الإسماعيلية، وفجأة ظهر أمامه خمسة من "الكوماندورز" مصريين (يقصد من قوات الصاعقة)، ومن الطبيعي أن الخمس جنود، أمام عشر دبابات يعني الموت المحقق لهم، إلا أن الكوماندوز الخمس نجحوا في تدمير خمس دبابات إسرائيلية!!! وبالطبع استشهد هؤلاء الأبطال الخمس المصريين، وأصيب شارون في هذه المعركة، وتم نقله لإسرائيل بعد ذلك.
واختتم " من ذلك كله فإننا نري أن ما حققه المقاتل المصري في حرب أكتوبر 73 وهذا النصر العظيم هو نتيجة خبراته ومفاهيم جديدة تم تقديمها في الفكر العسكري وسيستفيد منها المفكرون العسكريون في مختلف العقائد العسكرية بتطوير نظرياتهم بعد هذه الحرب التي قدمت العديد للفكر العسكري".