الشهر العقاري والتوثيق هي مصلحة قانونية عريقة مستقلة وقائمة بذاتها وتتمتع بالشخصية الإعتبارية والمعنوية المستقلة ، مرت بمراحل تاريخية منذ الفراعنة حتي الجمهورية الثانية التي شهدت منظومة الشهر العقاري والتوثيق عملية تطوير نوعية وطفرة غير مسبوقة من خلال محاور متعددة سواء من الناحية التشريعية أو على صعيد التوسع الجغرافي أو ميكنة ورقمنة الخدمات وتهيئة بيئة العمل المناسبة ورفع كفاءة المقرات المختلفة، وذلك في إطار استراتيجية الدولة ورؤيتها الممنهجة نحو بناء مصر الرقمية والنهوض بالأداء بوزارة العدل وقطاعاتها المختلفة وفي مقدمة القطاع الخدمي الأهم والعريق الذي لاقي اهتماما واسعا على مختلف المستويات، بما يضمن تقديم خدمة متميزة ، وحماية ممتلكات المواطنين ، وتشجيع بيئة الاستثمار، هذا إلى جانب إجراء التعديلات القانونية اللازمة التي توفر التيسيرات والتسهيلات اللازمة أمام المواطنين لتسجيل وتوثيق ممتلكاتهم وذلك من خلال قوانين الشهر العقاري المواكبه للجمهورية الثانية
وحول مراحل تطور هذا القطاع العريق فينظم الشهر العقاري والتوثيق قانونان الأول القانون رقم 114 لسنة 1946 وهو قانون مهنى ، والثانى هو المنظم للجانب الإدارى لموظفي الشهر العقارى وهو القانون رقم 5 لسنة 1964 وينظم المسائل الخاصة بالتعيين والفصل والترقية.
وجاء القانون الذي أصدره الرئيس عبدالفتاح السيسي ( رقم 9 لسنة 2022) لينظم عملية تسجيل الملكيات التي كانت تمثل إحدى مشكلات المجتمع ، وكانت سببا لإحجام المواطنين عن التسجيل هو اشتراط الملكية المسجلة وهو سبب تكرار العقود العرفية على العين الواحدة المتمثلة في تسلسل الملكية التي تمت إزالتها من خلال تسهيل وتبسيط الإجراءات وإزالة العقبات التي تمنع تسجيل الملكية، ووضع سقف زمني لا يتجاوز ٣٧ يوما لإنجاز المعاملة، وأصبحت المستندات المطلوبة غير معقدة وبسيطة وتحل الأزمات الخاصة بالعقود العرفية
و شهد الشهر العقاري والتوثيق اهتماما كبيرا من الدولة لم يشهده من قبل ففي أواخر شهر فبراير ٢٠٢٢ إفتتح الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء والمستشار عمر مروان وزير العدل ديوان مصلحة الشهر العقاري والتوثيق التاريخي بعد تطويره ورفع كفاءته تنفيذا لتكليفات الرئيس عبد الفتاح السيسي بتطوير القاهرة التاريخية بوجه عام وإحياء التراث ضمن خطة الدولة في الجمهورية الجديدة لعودة العاصمة لدورها التاريخي و الثقافي والأثري الذي يجعلك تفخر بالتراث المصري ، والمباني التاريخية التي تعد تحفة معمارية ذات طراز أثري وثقافي لأحد وأعرق أروقة العدالة واهمها الا وهي مصلحة الشهر العقاري والتوثيق ، المصلحة القانونية العريقة المستقلة والقائمة بذاتها والتي تتمتع بالشخصية الاعتبارية و المعنوية المستقلة ويمثلها قانونا رئيسها ، وليست جهة معاونة ، وتتبع إداريا وزارة العدل كالعديد من دول العالم .
واذا القينا الضوء على تاريخ تنظيم هذا الكيان العريق فنبدأ بما هو قائم منذ بدأية تنظيمه وتأسيسه في العصر الحديث ، ففي ٢٥ إبريل ١٩٢٢ وافق مجلس الوزراء المصري آنذاك على إدخال نظام السجلات العقارية في القطر المصري وكانت تسمي في السابق بدار الرهونات والتسجيلات وتقع بذات المكان الحالي 57 شارع رمسيس وكان يعرف قديما بإسم شارع الملكة نازلي سابقا ، وشرع في بناء المبني الحالي مصلحة الشهر العقاري والتوثيق ( دار الرهانات والتسجيلات ) عام 1924م وانتهي في يناير عام 1926م تحت مسمي ( بقلم الرهون والتسجيلات)وتتبع المحاكم المختلطة.
شيد المبني خصيصا لتسجيل وتوثيق عقود البيع والشراء وفي أواخر سنة 1946م صدر القانون 114لسنة 1946م بإلغاء تبعية قلم الرهون والتسجيلات للمحكمة المختلطة التسجيلات ثم أصبحت تسمى بمصلحة الشهر العقاري سنة 1947م، ومارست أعمالها اعتبارا من يناير 1947م، ثم صدر قرار رقم 68 لسنة 1947م بشأن التوثيق وبذلك أصبح أسم المصلحة يحمل شقي العملتين الشهر، والتوثيق ومن ثم صارت مصلحة الشهر العقاري والتوثيق.
وكان يشغل موقع المبني قديما النادي الوطني الرياضي "C. I. S. C".
وتم تشيد المبني على النيو كلاسيك الإنجليزي مع لمحات من الباروك ، و يتكون المبني من ثلاث واجهات تطل على ثلاث شوارع هي شارع رمسيس وشارع 26 يوليو وشارع عبد الخالق ثروت، الواجهة الرئيسية تطل علي شارع رمسيس، ويتكون من ثلاثة أدوار علوي و بدروم وقد بني علي مساحة مستطيلة غير منتظمة.
وتعود أهمية المبني التاريخي ذات الطراز المعماري المتميز الي أنه شيد على طراز عمارة الإحياء الكلاسيكي أو النيو الكلاسيك الإنجليزي ويتميز بواجهته ذات الفرنتون والرواق المعمد مع رواق البواكي الخارجية في الطابق الأرضي على غرار المنازل والقصور الإنجليزية في
إنجلترا في عصر النهضة والإحياء الكلاسيكي، ويتميز المبني بالعديد من العناصر المعمارية والزخرفية ذات القيمة التراثية والفنية من التقاسيم الحجرية البارزة وطرز الأعمدة الكورنثية والفرنتونات والكرانيش ودرابزينات البرامق والشرفات والبلكونات والخ مع شعار المملكة المصرية من الهلال والثلاث نجوم الذي يزين واجهة المبني الرئيسية.
ومن حيث الأهمية التاريخية والقومية للمبني فأنه يمثل أرشيف وتراث مصر القومي وسجل موثق لتاريخها الماضي والحاضر ، ويضم وثائق وعقود بيع منذ مئات السنين تمثل تراث هام لمصر وعنوان لمجدها ورقيها الحضاري عبر العصور وحتى الوقت الراهن .
وأصبح مسمي مصلحة الشهر العقاري والتوثيق الكائن بذات المبني الذي أنشئ عام ١٩٢٤ بشارع رمسيس (شارع نازلي سابقا ) في صدارة واجهة دار القضاء العالي بموجب القانون رقم 114 لسنه 1946 م وهو العام الذي أنشئ أيضا مجلس الدولة المصري في عهد الملك فاروق وحكومة التكنوقراط إسماعيل صدقي باشا و تحت رعاية واهتمام وإصرار وزير العدل المصري في ذلك الوقت المستشار محمد كامل مرسي باشا ومجهوده وأفكاره العظيمة لتطوير منظومة العدالة بمصر وقتها في إنشاء هذان الكيانين مجلس الدولة والشهر العقاري والتوثيق وفقا للنظام الفرنسي خلال عام1946.
وتعتبر الدولة المصرية أول من عرفت التسجيل والتوثيق في العالم ، غالمصريون القدماء أول من عرفوا نظام التوثيق و التسجيل العقاري، حيث أسسوا إدارة تختص بمسح الأراضي وإحصاء الملكيات والسندات وضبطها في سجلات
وفي عام ١٨٥٨ ميلادية أصدر الخديوي سعيد لائحة استخدمت المكلفات الضريبية لتحديد أصحاب الحقوق الواردة على الأراضي ، وأصبح التصرف فيها لا ينعقد إلا بحجة رسمية يحررها القاضي الشرعي ، وتودع في سجل خاص بالمديريكما صدر فرمان من الخديو محمد توفيق (1852 – 1892) فى 18 ديسمبر عام 1881 بتأسيس لجنة لتسجيل وتوثيق الآثار العربيةكما أن مهنة التوثيق والتسجيل رسخت منذ آلاف السنين حتى الان مرورابالتاريخ الإسلامي.فالوثيقة هى تسجيل ثابت للحدث ساعة حدوثه بما يحفظ تفصيلات الموضوع ويحميها من عوامل التغيير والزيادة أو النقص الذى يطرأ نتيجة لتبَدُّل الأفكار والتوجهات وتأولات المتأخرين وتحريفاتهم إمّا قصداً نتيجة الأهواء الشخصية أو بدون قصد نتيجة الجهل أو نتيجة النسيان الذى هو من طبيعة النفس البشرية عبر التاريخ، فلذلك نظم القُدماء المصريين توثيق الثروة العقارية وإثباتها وتداولها رسمياً وبعقود كتابية موثقة على جدران المعابد والمخطوطات الفرعونية التى كانت أهميتها متوازية للحكم والحاكم.
وهذا ما عبر عنه التمثال الفرعونى الأشهر على الأطلاق "الكاتب الجالس" والذى أثبت للعالم أجمع أن المصرى أول من أمسك بالقلم وكتب فى التاريخ خلال عصر الدولة المصرية القديمة، وقد لا يعلم الكثير منا ان العُملة الورقية المصرية الحالية فئة الـ200جنيهاً، وهى أكبر عملة مصرية ورقية حالياً، والمطبوع عليها هذه الصورة تمثال الكاتب الجالس الفرعونى أو "كاتب القرفصاء" وهو من أشهر الآثار المصرية القديمة، وهو يعبر عن الموثق الفرعونى وكان من أعلى المناصب وأرفعها شأنا، خاصة وان من شروط توليه هذا المنصب ان يتحلى بالهمة والمهارة والكفاءات الواجبة لدى الحاكم.
و احتلت مهنة الكتبة (الموثقين) مكانة عُظمى فى مصر القديمة واعتبرت درجة هامة فى سلم الترقى الوظيفي، والمُطالع للكاتب الفرعونى وهو يجلس فى سكينة وقد بسط لفافة بردى بين يديه بينما تمسك يده الأخرى بريشة الكتابة، وقد ألتمعت عيناه وشردت قليلًا وكأنه فى انتظار ما يُملى عليه من تعاقدات او يفكر فيما سيكتب ويوثق،وفى إطار كافة المهن الفرعونية، ان لكل منصب فرعونى رئيساً له، إلا وظيفة الكاتب (الموثق)، فهو سيد قراراته ومدير شئونه، وهو ما يؤكد على استقلال مهنته وعمله فى الدولة المصرية القديمة، فقد كان يُلقب بـ "كاهن المعبودة ماعت" إلهة الحق والعدل عند الفراعنة، والتى تمثلت بهيئة سيدة مُجنحة رمزاً للعدالة،وتعلو رأسها ريشة النعام، وهو الشعار المُتخذ حالياً رمزاً لوزارة العدل المصرية،وكما فى الصورة المرفقة، نجدها مُمسكة مفتاح الحياة (عنخ) فى أحد يديها وتمسك فى يدها الأخرى صولجان الحكم، وأحياناً يُرمز لإلهة الحق والعدل بالريشة،ويُنسب للمعبودة "ماعت" أيضاً التحكم فى فصول السنة وحركة النجوم، لهذا سميت مصر قديماً (أرض النيل والماعت)،وكان من أبرز ملامح "ماعت" آلة العدالة هى أن تاج رأسها عبارة عن ريشة الكاتب (الموثق)الفرعوني، والتى هى الآن رمز لمهنة الموثقين بمصر وبكل دول العالم،
وهو ما يؤكده كافة المخطوطات الفرعونية وقد أجمعت على تفخيم وتمييز منصب الكاتب (الموثق) الفرعوني، وكان يسمو ويرقى فوق مستوى أى عمل من الأعمال الأخرى، حيث كان مراحل تدريبه ليكون موثقاً، تبدء منذ ان كان طفلاُ، بخلاف باقى المهن الفرعونية كافه،وكان منصب كاتب العدل (الموثق) الفرعوني، لا يُسند مبدئياً إلا لأحد افراد الاسرة المالكة الفرعونية، ولم يسمح لغير افراد العائلة المالكة بتولى هذا المنصب إلا فى الدولة الفرعونية الحديثة، وكان الموثقين الفراعنة من كبار موظفى الدولة المصرية القديمة ؛ وكانوا بمثابة عُظماء مثقفيها وحكمائها.
ولما لمهنة التوثيق أهمية ومكانة كبيرة لكونها المصدر الأول لأى بحث تاريخي،و شاهد العيَان الذى ينقل تفاصيل الحدَث التاريخى بزمانه ومكانه وأشخاصه وجزئياته، وقد بين القرآن الكريم أهمية الكتابة والتوثيق فى حيَاة الانسان فى عدّة مواضع منها قوله تعالى: { يَا أيُّها الذين آمَنوا إذا تداينتم بدَيْن إلى أجلٍ مسَمَّى فاكتبوه ولْـيَكتب بينكم كاتبُُ بالعدل... إلى قوله تعالى: ولا تسْأمُوا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجَله ذلكم أقسَطُ عند الله، وأقوَم للشهادة، وأدنى أن لا ترتابوا " صدق الله العظيم، و جاءت مهنة الموثق والتوثيق فى مكانة عظيمة وجليلة فى كافة العصور وفى دعوة كافة الرسل والأنبياء، وأول ما نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سورة " إقرأ " وما تنزل عليه فى كتابه الكريم فى سورة القلم " ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" صدق الله العظيم.
وكما ذكر الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن على بن أحمد بن عبد الله الشهاب بن الجمال الملقب بالقاضى الفاضل" القلقشندى الشافعى " فى كتابه الشهير «صبح الأعشى فى كتابة الإنشا» ذهب إلى وجود نوعين من الدواوين، هما الإنشاء والجيش، فقد كان ديوان الجيش ابتكارى عمرى –عمر بن الخطاب-، أما ديوان الإنشاء فكان الأساس والمرتكز الذى تم إنشاؤه وتأسيسه فى زمن النبوة ومنه استهلم سيدنا عمر بن الخطاب والصحابة والتابعين و رُشِّح القلقشندى للعمل فى ديوان الإنشاء وكان من أهم دواوين الدولة فى العصر المملوكى، وترقَّى فى العمل فى الديوان ووصل فيه إلى أرفع المناصب، وقد بدأ عمله فى ديوان الإنشاء فى القاهرة سنة 791هجرية، وذكر القلقشندى فى كتابه الشهير ان ديوان الإنشاء عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت توثق فيه رسميا وليس بشكل عرفي، وذلك فى جهة تتبع الجناب النبوى مباشرة،و أن أربعة من الصحابة برزت على أيديهم كتابة المواثيق والعهود والمعاملات والمداينات بين الناس، منهم الحصين بن نمير، المغيرة بن شعبة، الأرقم، والعلاء بن عقبة
وكان هذا التكليف يتم من خلال الأمر النبوي، فكان اى شخص يجرى معاملة مثل البيع والشراء والتداين كانوا يذهبون إليه لإنشاء سجل ويوقع عليه جميع أطراف المعاملة لتصبح وثيقة محفوظة، وهذه المهمه التى أشار إليها القاضى الفاضل الإمام القلقشندى يعادلها اليوم " موثق الشهر العقاري"، مما يؤكد القاضى الفقيه إلى سمو هذه المهنة ورفعة كل من يقوم بهذه المهمه بأن يفخر بأنها مهنة سبقه الصحابة، و أن هذه المهنة انتقلت إلى التابعين، لأنها مرتبطة بالأمانة والخلق وحفظ الحقوق، والسرية والإصلاح بين الناس وأداء الأمانات لأهلها، وكان من فقهاء المدينة بن عبدالله بن عوف وخارجة بن زيد بن ثابت، فقد كانا يستفتيان وينتهى الناس إلى قولهما ويقسمان المواريث ويكتبان الوثائق بين الناس، وهو ما يعنى أن من يعمل فى هذه المهنة يجب أن يتسم برجاحة العقل والعلم وأن تكون مصداقيتهم شائعة بين الناس.