أكتب هذه الكلمات في لحظة فارقة من عمر صاحبة الجلالة وتاريخها الطويل في مصر.. ليس لأن الكثيرين من أبناء جيلي ومن سبقوه، يرون أن مهنة الصحافة في مصر تعيش الآن لحظة احتضار مريرة.. وليس لأن المهنة برمتها- سواء اعترفنا بذلك أو دفنا رؤوسنا في الرمال- أصبحت في مرمى نيران أعدائها داخل أروقة الحُكم وخارجه.. وليس أيضا لأننا على أعتاب انتخابات تجديد نصفى لمجلس نقابة الصحفيين.. ولكنى أكتب لأني من أبناء هذا الجيل الذي قدر له أن يعيش لحظة انهيار كبرى في بلاط صاحبة الجلالة.. هؤلاء الذين سيذكر التاريخ لهم ما فعلوه حين احتضرت مهنتهم أمام أعينهم..
أكتب ليس على سبيل تبرئة الذمة، فجميعنا دون شك ودون استثناء، أخطأنا في حق مهنتنا.. وفى لحظة ما ضاعت البوصلة من أيد الجميع.. فدفعنا ولأول مرة فاتورة ضخمة من مهنتنا وقوتها وهيبتها.. وانتهينا إلى ما نحن فيه ألان.
أصارحكم القول أن هذه السطور حاولت كتابتها كثيرا منذ شهور مضت ولكن في كل مرة وقف قلمي عاجز عن السرد.. فالحقيقة يا سادة لن تعجب أحد.. سواء داخل الوسط الصحفي أو خارجه.. الجميع يريدها "ميتة"، خاصة بعد أن توافق عجز الأقلام مع إرادة عليا داخل الوطن.. تلخصت في مقولة الرئيس السيسى.. بأن ليت له إعلام مثل إعلام عبد الناصر..
والحقيقة أن زيارة سريعة لنقابة الصحفيين التي كنت قد هجرت زيارتها منذ شهور طويلة.. زلزلت بداخلي شئ ما دفعني جبراً لأن أكتب اليوم.. عن حال مهنة أظنها من أسمى وأرقى بل وأعظم الأمانات المهنية في بلادنا.. ببساطة لأنني وقفت على كم مرعب من الغضب المكتوم والمدفون داخل الأروقة.. غضب ممزوج بالعجز والفقر والحاجة بل والتسول في بعض الأحيان..
نعم يا سادة دعوني أعترف دون خجل أو خوف أن مهنة الصحافة في مصر.. قد تم تأديبها وتأديب أصحابها.. بالشكل الذي أصبح ينذر بخطر لا يدركه الكثيرين الآن.. ولكنى استطعت أن أشتم رائحة لشئٍ أكبر بكثير من الذي يراه الجميع.. إنها رائحة الغضب في القلوب.. أعتقد أن كثيرين منهم.. بل السواد الأعظم لم يعد يملك ما يخشي أن يخسره.
وإذا كان البعض منا قد جانبه الصواب في معركة الدولة المصرية التي خاضتها خلال السنوات القليلة المنصرمة، وربما حتى الآن.. إلا أن هذا قطعاً لم يكن حال جموع صحفيين مصر.. ولم يكن ليستحق كل هذا العقاب والترويض.. الذي وصل حد التسول والجوع والعوز والفقر في بيوت مئات الصحفيين.. بل الأكثر من ذلك.. فأن ما أصاب الصحافة في لحظة ما من عمر الوطن.. قد أصاب كل الوطن برمته.. فنحن جزئ منكم نمرض بأمراضكم.. ونضعف بضعفكم.. ونقوى حين يكون الوطن قويا.. ولكن أن يتصور البعض أن صحفيين مصر سوف يدفعون الفاتورة وحدهم فهو تصور واهم وغبي ولن يحدث.
على الجانب الأخر دعوني أعرًج معكم على بعض المحطات سريعاً جداً في عمر التجربة الناصرية وعلاقتها بالصحافة..
فالزعيم الراحل عبد الناصر كان صاحب قرار إنشاء جريدة الجمهورية برئاسة تحرير الرئيس السادات التي قامت على أكتافه.. عبد الناصر الذي فتح قلبه وبيته للصحفيين.. وقام بأعظم قرار عرفه تاريخ الصحافة المصرية بتأميم الصحف.. فصار كل صحفيين مصر دون استثناء وقتها.. أبناء لعبد الناصر، بل لنقل أبناء للثورة وأبناء للدولة.
وفى عدة شهور قليلة تحولت الزميلة الأهرام إلى واحدة من أهم عشر صحف على سطح الكوكب.. وصارت لسان الثورة ولسان العرب في كل بقاع الأرض.. وعرف العالم مصر بثورتها عبر كتاب الأهرام والأخبار والجمهورية.
ويكفى أن يكون نائب رئيس الجمهورية.. صحفيا برتبة رئيس تحرير.. ثم أصبح أول صحفي يرأس مصر.. فيجمع بين الحُسنيٍين.. الرتبة العسكرية والرتبة الصحفية.. في أعظم تحالف بين الجيش والصحافة عاشته مصر في عصرها الحديث.
نعم كان كل صحفيين مصر وإعلاميها مع عبد الناصر وثورته لأنه عاملهم كأبناء للثورة وكأبناء له.. فليت أيام عبد الناصر تعود.
وكلامي هنا ليس غمزاً أو لمزاً على شخص الرئيس السيسى.. الذي أقدره واحترمه وأتفهم موقفه.. وليست أيضا هذه طريقتي.. ولكنها حقائق التاريخ.. ويعلم الجميع أنى واحداً من هؤلاء المحسوبين على فريق 30 يونيه ولكن التاريخ أيضا سيذكر أن نقابة صحفيين مصر والمنتمين إليها.. لم تخرج من عبائتهم مظاهرة فئوية واحدة حين امتلأت شوارع مصر بمظاهرات المطالب الشخصية.. بل كنا في عز الانهزام.. أكثر وعيا من أي شريحة أخرى داخل هذا الوطن.. بل كنا في لحظات الحرب وقود المعركة.. وأستشهد منا عددا غير قليل لتروى دمائهم الذكية تراب مصر لكي ينتهي عصر الظلام الإخواني.. ولنا في دماء الشهيد الحسيني أبو ضيف ذكرى لن تتوارى في قلوبنا.. بل سأقول ما هو أكثر من هذا.. لقد شعر البعض منا في لحظة ما.. بأننا نعاقب بجريمة إسقاط حكم مبارك.. التي بدأت على السلم الأسود لنقابة صحفيين مصر.
نعم يا سادة لقد دفعنا الثمن باهظ قبل أي أحد في هذا الوطن.. وقبل أن يفيق أحدا أيضا في هذا الوطن.. وسيظل السلم الأسود شاهد على دماء وانتفاضات.. ستظل درجات السلم الأسود شاهدة على ثورتين صعدتا على درجاته كي يتغير شكل الحياة في مصر.
أقول هذا على سبيل التبشير بحدث جلل.. سوف تعيشه هذه المهنة.. إن بقيت أوضاع المهنة وأصحابها في هذا الانحدار الذي لا ينتهي.. أقول هذا وأنا واحداً ممن يدركون قوة الكلمة وأثرها لو ماتت على الأوراق.. أقول هذا ونحن على أبواب انهيار ضخم لصناعة كان من المفترض أن تقود الوعي الجمعي للأمة ألان.
سامحوني.. فالأقلام الجوعى لا تخوض معارك.. وبطون الجوعى لا تدخل الحرب.. والعقول المنهكة في البحث عن لقمة العيش لا تدافع عن المجتمع.. ببساطة لأن إطعام الصغار صار القضية الأولى في بيوت الصحفيين.
وأخيراً لم يعد من المهم أن تعود أو لا تعود.. مادة السلطة الرابعة في دستور 2014 ببساطة لأن السلطة الرابعة هي في الحقيقة سلطة أولى حين يعمل الصحفيين صحفيين.. يمنحها لهم قرائهم وشعبهم.. ليست منحة من أحد.. وليست مادة في دستور.. حين يمارسون عملهم بإبداع من أمن قوت يومه.. حتى ولو ارتدى ثوب المعارض وليس ثوب الموالاه.