رضا عبد السلام علي سالم، سيدة من أبناء قرية «الشرفا»، التي تقع شرق النيل على بعد 6 كيلو مترات من مدينة المنيا، اختارت العمل في مهنة شاقة يفر منها بعض الرجال، وقدمت خلالها مسيرة من العطاء امتدت لسنوات، إذ كانت تعمل حتى وقت قريب سائقة على سيارة ربع نقل داخل المحاجر، لكن ظروف مرضها جعلتها تترك العمل بعدما أدت رسالتها على أكمل وجه تجاه البنات، واللائي يحتفلن الآن بثمرة عطائها، إذ غمرنها بالهدايا وكلهن فخر بها، ولسان حالهن ينطق بالعرفان والامتنان «كل سنة وأنتِ أعظم الأمهات، كل سنة وأنتِ العالم بالنسبة لنا».
"رضا" ريعان شبابها رحل زوجها تاركًا لها حملًا ثقيلًا تئن منه الجبال، تمثل في 4 زهور من البنات، أصغرهن كان عمرها وقت وفاة الأب 40 يومًا، حينها قررت بكل إباء وعزة، مثلها مثل أي امرأة صعيدية شيمها القوة، عدم الاستسلام للظروف، لتوفير حياة كريمة لبناتها، فصعدت لأعالي الجبال، تكد وتشقى نهارًا، وتسهر على راحة بناتها ليلًا، حتى تصدرت قمة النساء الفضليات.
«بناتي سندي وكل حياتي.. دخلتهم علي بالدنيا وما فيها».. قالتها الأم موجهة الشكر لبناتها الأربع «هند»، و«شيماء»، و«إيمان»، و«هدير»، وجميعهن متزوجات عدا الأخيرة، إذ حرصن على تهنئة الأم التي تجاوز عمرها 54 عامًا بعيدها، وأحضرن لها الكثير من الهدايا التي تنوعت ما بين مفارش وأدوات مطبخ وملابس وبعض الحلي.
تروي «رضا» قصة كفاحها، قائلة: لم يكن يخطر ببالي أن أقود يوماً ما سيارة نقل، وأعمل بها فى محاجر المنيا، غير أن القدر أجبرني على ذلك، خاصة أن المرأة الصعيدية الريفية تعاني من صعوبات كثيرة حال خروجها من منزلها، وهناك بعض المهن لا تقترب منها النساء، فكان البعض يندهش عندما يرى سيدة تمارس بعض المهن غير التقليدية، التى تعد من المحظورات في مجتمع الصعيد، كأن تقود سيارة نقل وتعمل بمفردها وسط الرجال».
تضيف الأم الملقبة بـ«سيدة الجبل»: قبل نحو 25 عاماً، مات زوجي الذى كان يعمل موظفاً بالشباب والرياضة، وترك لي أربع بنات، وسيارة ربع نقل اشتراها بالتقسيط، فتحملت المسؤولية بمفردي بعد وفاته، وبحثت كثيراً عن شخص يؤتمن علي السيارة فلم أجد، فأخذت زمام المبادرة، وبدأت أفكر فى قيادة السيارة بمفردي، ونجحت فى تحطيم كل العوائق حتى استخرجت الرخصة، وبدأت العمل فى قطاع المحاجر أنقل العمال ومستلزمات المحاجر وأحياناً البلوكات الحجرية.
ومرت حياة كفاح الأم أمام عينها التي أغرورقت بدموع الفخر واستطردت، قائلة: «مات زوجى مبكراً وتركني لأقاربه الذين حرموني من الميراث، فزاد ألمي واسودت الدنيا في عيني، وتعرضت كثيراً لمواقف صعبة، أذكر منها أن مدرس اللغة العربية طرد ابنتي شيماء من الدرس لأننى لم أستطع أن أدفع له أجر شهر، وشعرت أن بناتي مهددات بترك التعليم، ولم أُرزق بولد يدافع عنهن ويحميهن من بلاوى الدنيا، فاتخذت القرار الصعب بقيادة السيارة بعد أن بدأت الديون تلتف حول رقبتى وتتطاردنى ليل نهار، وفشلت فى الوفاء بسداد أقساط السيارة فتعلمت القيادة بنفسى، واستخرجت الرخصة.
وتضيف: بدأت العمل فى قطاع المحاجر المنتشرة حول قريتي، وفى البداية كان ينظر إلىّ الجميع بدهشة واستغراب، وتحملت الكثير من السخرية والأذى حتى اعتادوا على الأمر، وبدأت نظراتهم إلىّ تختلف، وتعرضت لمواقف صعبة بالسيارة، أذكر منها أنها انقلبت منى مرتين، وأنا أنقل عمال المحاجر وفى كل مرة كان لطف الله يشملنى، لأنه يعلم حالي.
«ست بـ100 راجل».. تلك هي نظرة عمال المحاجر التي يملؤها الاحترام والتقدير لـ«رضا»، فالعامل سيد شعبان، الذي اعتاد أن يستقل سيارتها للذهاب إلى المحجر والعودة، يرى أنها مثال للأم المكافحة المناضلة الشريفة الطاهرة، التي عبرت ببناتها مرحلة حرجة وأختارت أن تضحى بشبابها من أجل رعايتهن حتى أحسنت تربيتهن، أما الابنة الكبيرة شيماء، فترى فيها الأم المجاهدة المثابرة، التى تحملت الظلم والمعاناة كثيراً من أجل أبنائها.
ومنح اللواء أحمد ضياء الدين، محافظ المنيا الأسبق، السيدة «رضا» لقب الأم المثالية عام 2010، كسيدة ذاقت كل صنوف التعب من أجل تربية بناتها، وهي الآن لا تتمنى سوى أمنيات بسيطة من الدنيا، منها تعيين بناتها بالدوائر الحكومية، وهن «هند» الحاصلة على بكالوريوس الزراعة ودرجة الماجستير في الكيمياء، و«شيماء» الحاصلة على معهد فني تجاري، وكما تتمنى أن تحج بيت الله الحرام، وأن تقابل رئيس الجمهورية الإنسان لتشكره على ما قدمه للوطن من إنجازات ومشروعات وأمان، وتدعو له بدوام النجاح والتوفيق والسداد، وتطلب منه مساعدتها في تغيير سيارتها الربع نقل موديل 1982، والتي تهالكت بسبب العمل بالمحاجر لسنوات.. فهل تجد هذه الأم المكافحة من يسمع صوتها ويلبي لها أمنياتها البسيطة؟.