- كواليس المكالمة الأخيرة للشهيد مع شقيقه قبل وفاته بساعات قليلة
- منزل الشهيد مليئ بالدروع أشبه بالمتاحف العسكرية
- الفقيد كان دائم القول لوالدته: «اقعدي جنبي بكرة تدوري عليا مش هتلاقيني»
- أم الشهيد: انهرت عندما وجدت الرصاص يخترق جسد ابني في الاختيار 2
- تفاصيل وصية الشهيد جودة لشقيقته الكبرى.. وقصة ذهابه لـ«مُعلمي الثانوي» لوداعهم
أعادت حلقات مسلسل «الاختيار 2» إلى الأذهان قصص وبطولات شهداء الوطن، فبمجرد إذاعة مشاهد استشهاد أبطال وزارة الداخلية الأبرار واحدًا تلو الأخر تجددت مشاعر الحزن وآلام الفقدان الموجعة داخل كل أسرة من أسر الشهداء، وهو جعل «بلدنا اليوم» تحرص على الوقوف إلى جانب المكلومين في أبنائهم، وتحمل السطور التالية كواليس ذكرى استشهاد أحد أبطال عملية في اعتصام رابعة.
انتقلت محررة جريدة «بلدنا اليوم» إلى منزل الشهيد محمد جودة، الضابط بالعمليات الخاصة، أول شهيد في فض اعتصام رابعة العدوية عام 2013.
وعندما صعدت سلم المنزل وقبل الوصول إلى الباب وجدت صورة كبيرة للشهيد، فرغمًا عن أن الإضاءة خافتة للغاية إلا أن الصورة جذبت نظري جدًا وجعلتني أقف أمامها دقيقة قبل أن ادق جرس الباب، في تلك اللحظات كانت تسيطر مجموعة من الأسئلة على عقلي لا انتظر جوابها من أهله بل منه هو شخصيًا، وكأنني أُقبل على مقابلته هو ليرد عليها، ولكن بعد أن قمت بدق جرس الباب قابلتني سيدة بإبتسامة هادئة لا تخفي الشحوب من وجهها المليئ بالحزن والذي يشع كمية من القهر والألم.
منزل الشهيد متحف عسكري
دخلت المنزل وجدته يشبه في الحقيقة المتاحف العسكرية الكبرى فهو يمتلاء بالعديد من الصور ودروع البطولات لإنسان رفض كل متع الحياة وكرس حياته لخدمة وطنه؛ ليس طمعًا في الترقيات المهنية ولكن لينول الشهادة، عقب الوصول بدقائق خرجت لنا الدكتورة أماني، شقيقة الشهيد وعلى بعد أمتار قليلة يجلس رجل الحزن يُخيم على وجه لدرجة أنه لا يستطيع أن يقترب منا، وهو والد البطل الذي ترك الحياة منذ 8 سنوات.
في البداية كنا نعتقد أن تلك السنوات نجحت في ذوبان الألم، ولكن خلال الأيام القليلة أحيا عمل درامي يحكي عن بطولات رجال الشرطة لحظات الحسرة والوجع والفراق من جديد وهو مسلسل «الأختيار 2» أو كما أطلق عليه «رجال الظل»، ووصفت السيدة «هدى» والدة النقيب محمد جودة، أو «جودة» كما اشتهر عنه بين زملائه، هذا العمل الفني بأنه عمل قوي، وأضافت أن حلقة فض اعتصام رابعة كانت صعبة للغاية عليها؛ لأنها لم تكن رأت نجلها من قبل عملية الاستشهاد بيوم وفجأة شاهدت ابن قلبها أمامها يتلقى طلقة نارية وغارقًا في دمائه.
وقالت «أم الشهيد» إنها انتابتها حالة من الصراخ والبكاء وهى جالسة أمام التلفزيون تشاهد ماحدث وتسمع استغاثات زملائه وهم يرددون «جودة» كأنها ترى اللحظة الحقيقية لقتل ابنها، حالة من الصمت غمُرت المكان للحظات استشعرت أن الأم المفتقدة لإبنها استرجعت لحظاتهما سويًا وهو عائد من عمله تستقبله بالأحضان من اشتياقها له، وهى الآن في لحظات اشتياق رهيب ولكنه غير موجود لتضمه بين زراعيها وتعبر له عن مدى شوقها له.
حق الشهداء
ووجهت الأم الموجوعة على فراق ابنها الشكر لفريق عمل المسلسل لقيامهم بتجسيد شخصية نجلها، مؤكدة على أنهم بذلك وثقوا حياة الشهيد للتاريخ، وأنهم حققوا حلمها عندما شاهدت قصة الشهيد أحمد منسي العام الماضي في رمضان 2020، وأن من حق شهداء الشرطة الذين شاركوا في فض اعتصام رابعة والنهضة ومذبحة كرداسة أن يسلط عليهم الضوء وتخلد ذكراهم بتلك الأعمال، وتابعت: «جعلوني أراه مرة أخرى حتى لو كان في مشهد مليئ بالدماء».
كما وجهت الشكر للفنان الذي جسد دور الشهيد، وأضافت أنها لا تعلم أن المسلسل سوف يُظهر أي شيء عن نجلها ولكنها فوجئت؛ لعدم تواصل أحد من فريق العمل معها قبل العرض، ولكنه علمت بوجود نجلها في أحداث المسلسل عندما شاهدت الحلقة الثالثة ومن هنا بدأت تحرص على مشاهدة العمل بصفة يومية.
وعن ردود الأفعال على عرض الحلقة الخامسة من المسلسل، أشارت إلى إنها تلقت اتصالات هاتفية عديدة ليس تعليقًا على العمل ولكن لتقديم واجب العزاء مرة أخرى في الشهيد، وأكدت أن أهم المكالمات التي أسعدت قلبها كانت من زملاء النقيب محمد جودة الذين مازالوا حتى الأن على تواصل بها ليردون الجميل لصديق العمر الذي افتقدوه كثيرًا.
طريق السلامة
لحظات هدوء وشرود بالمنزل بعد نهاية الحديث عن العمل الدرامي، شجعنا على كسر هذه الأجواء وبدأنا نسترجع اللحظات الأخيرة بينها وبين الشهيد التي ذكرت أن أخر لقاء بينهما كان يوم الثلاثاء الموافق 13 أغسطس 2013 وهو خارج لعمله في حراسة أمن الدولة بمدينة نصر، بتنهيدة طويلة قالت أنه سادس يوم العيد فطر ولبس وقال لها أنه خارج، واحتضنها ورددت له «طريق السلامة» وعقب نزوله ذهبت مسرعة لشرفة المنزل وظلت تتابع خط سيره حتى اختفى عن نظرها، وفي تمام الساعة الثامنة والنصف اتصل بها المكالمة الأخيرة لسماع صوتها، وسألها عن والده الذي كانت تربطه به علاقة وثيقة جدًا فكان ردها أنه نائم فطلب منها عندما يستيقظ أن تسلم عليه وعلى أخوته، مؤكدة إنها لحظة المكالمة لم تستوعب الأحداث الغريبة فيها، لما يطلب منها أن تسلم على باقي العائلة وهو سوف يعود بعد ساعتين عندما يذهب له زميله لاستلام العمل، عادت الأم لصمتها لحظات واستطردت: «مركزتش في كلامه غير بعد موته».
المكالمة الأخيرة
وتابعت، إنها جلست في انتظار نجلها الذي كان من المفترض أنه ينهي عمله الساعه 11 مساء ويعود للمنزل، ولكنها انتظرته كثيرًا ولم يعد وكما تعودت على طبيعة عمله أنه غير محدد بوقت وأنه في أي لحظة تتغير خطته، فهذا ما صبر قلبها، وفي تمام الساعة الرابعة والنصف صباح الأربعاء يوم عملية فض الاعتصام، تلقى شقيق الشهيد مكالمة لا تتعدى الدقيقة قال فيها نصًا: «أنا طالع عملية ادعيلي» مشيرة إلى أن هذه المرة كانت هي أخر تواصل مع عائلته.
وفي تمام الساعة الثامنة صباحًا تلقت مكالمة من ابن عم الشهيد يطلب منها أن تفتح التلفزيون، وبسؤالها عن السبب لم يستطيع أن يخبرها، ففتحت الجهاز وشاهدت إعلان استشهاد الملازم أول محمد جودة عثمان ضابط العمليات الخاصة، كلمات قرأتها ولكنها وصفت أنها كأنها تلقت صاعقة أطاحت بالعائلة فهي فقدت النطق والأب اختل توازنه وسقط أرضًا مرددًا: «إنا لله وإنا إليه راجعون».
وأفادت السيد هدى، أنها لم تشاهد جثمان نجلها ولكن شقيقته الكبرى وشقيقه هما من قاما بإجراءات مراسم الدفن بعد انتقلهما إلى المستشفى.
وأكدت أم الشهيد، أن نجلها كان يعلم أنه سينول الشهادة، ولكنها لم تكن تعلم أنه يودعها وذلك عندما كان يطلب منها في أخر أيامه أن تجلس بجواره، وعندما ترفض لإنشغالها يقول لها كلمة تؤلم قلبها تجعلها تترك كل شيء وتجلس بجواره فكان يقول لها: «اقعدي جنبي بكرة تدوري عليا مش هتلاقيني».
وتابعت في نبرة صوت حزينة مصاحبة لتساقط الدموع من أعينها قائلة: «راح نور عيني اللي كان بيحب شغله وكان دائم طلب الشهادة».
وسألنا والدة الشهيد محمد جودة، عن موقفها إذا عاد الزمن إلى الوراء وأخبرها نجلها بذهابه لفض الاعتصام لترد دون تفكير: «هقوله ربنا معاك مش همنعه دا كان بيعشق شغله من صغره كان كل ألعابه أسلحة وحلمه أنه يكون ضابط ولم أمنعه من التحاقة بكلية الشرطة بالعكس كلنا شجعناه، وبعد استشهاده شقيقه الأصغر قرر الالتحاق بأكاديمية الشرطة ولم نرفض بل قمنا بتشجيعه وبعد تخرجه سعى للإلتحاق بالقوات الخاصة ليكمل مسيرة شقيقه الشهيد.
وباستكمال الحديث مع الأم المكلومة عن ذكريات حياتها مع نجلها الشهيد انتابتها حالة من الانهيار الشديد فقررنا إنهاء الحديث معها بسؤالها عن ما تريده وتجده مناسبًا لإحياء ذكرى الشهيد، فكان لها طلبين وهما إحياء اسماء شهداء الشرطة في فض اعتصام رابعة بنصب تذكاري بميدان رابعة - ميدان الشهيد هشام بركات حاليًا -، والطلب الثاني هو مقابلة الأب الكبير للشعب المصري وأبو كل الشهداء الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية.
شقيقة شهيد الوطن
والتقطت أطراف الحديث الدكتورة أماني جودة، شقيقة الشهيد، التي بدأت حديثها عن الشهيد بتنهيدة طويلة تشعرك بكمية الاشتياق والفقدان له، ففي البداية أشادت بالمسلسل وفريق العمل ووصفت لحظة مشاهدتها مشهد استشهاد شقيقها البطل أنه أعاد لحظات الوجع وألم وذكرى حزينة كان لها الأثر السلبي على الأسرة كلها.
وبتوجيه دفة الحديث إلى مدى قوة علاقتها بشقيقها وكأننا ضغطنا على قنبلة موقوتة من المشاعر الجياشة نابعة من أخت فقدت السند والقوة ومصدر الطاقة لها التي كانت لا تستطيع أن تتخذ قرارًا في حياتها بدونه فهو كان لها القدوة والأمان الذي استيقظت في يوم على نبأ أنها أصبحت بمفردها ومصدر قوتها تحول إلى ضعف الكتف التي تستند عليه انكسر، منبع أفكارها ومدبرها فقد الوعي، فكيف تعيش بدونه كيف تستمر الحياة ؟
أسئلة كثيرة تدور في ذهن الأخت العاشقة لشقيقها وما كان عليها بعد أن فقدت الإحساس بالأمان إلا الجري إلى غرفته وارتداء بدلة العمليات الخاصة والعدو خلفه في جنازته وتلقي واجب العزاء مستمدة قوتها من رائحته الملتصقة بزي عمله.
وأشارت إلى أن شقيقها رغم صعوبة طبيعة عمله إلا أنه لم يؤثر على شخصيته ولم يفقده بهجته وحنيته وقلب الأطفال الذي بداخله الذي يبكي عند مشاهدة موقف إنساني، فالحياة العسكرية وسلاحه الميري لم يفقداه كل هذه المشاعر الإنسانية التي كانت بينه وبين عائلته وزملائه.
وأضافت: «محمد دخوله علينا كيان وبهجة فقدناها جميعا مفيش حاجة تعوضه لأخر الزمان أخويا كان ملاك وفكرة فقدانه عذاب وصعب ولكن اللي مصبرنا أنه نال اللي بيتمناه».
وصية بطل
وبدأت تستعيد شقيقة الشهيد ذكريات أخر أيام بينهم من طلبه منهم خروجهم معه وحديثه معها ووصيته لها عن نفسها كل هذه الأحداث لا تستوعب إنها كانت لحظات وداع إلا بعد وفاته.
وذكرت أنه كان يعلم ارتباطها بيه وإنها لا تستطيع العيش بدونه، فهو لم يتركها حتى الأن في أي حالة خوف أو قلق أو تفكير في أي قرار فإنها تستشعره بجوارها دائمًا ويزورها في أحلامها في أي موقف.
وأكدت إنها كانت تعتمد عليه في حياته وحتى بعد وفاته لا تستطيع عمل أي شئ بدونه وهو ما جعلها تدرك جيدًا معنى الأية القرآنية الكريمة: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».
وأردفت: «الشهيد لم يمت حي يعيش معي، بس هو واحشني جدًا مفتقدة لحظة رجوعه من عمله وأنا بجري عليه ويحتضني بين ذراعيه».
حالة من الصمت عبارة عن استعاده لذكريات ملطخة بالوجع والألم على فقدان قطعة من القلب، شخص واصل لرحمه حتى الأقارب البعيدة، ذهب لمعلميه في المرحلة الثانوية لوداعهم، ذهب للمقابر لزيارة شقيقه الأكبر وكأنه يخبره أنه لاحقًا به قريبًا.
وأنهت شقيقته حديثها أنها فخورة بأنها شقيقة الشهيد محمد جودة الذي يذكره الجميع بذكراه العطرة، وروحه الخالدة في القلوب الذي قدم نفسه فداءً لوطنه ضد أعدائه الذين يريدون هدمه والذي كانت من أحلامه أن يرى بلده سعيدة بشعبها ولو مرة قبل وفاته.