تصوير.. أحمد حسن
على أطراف المدينة تجمّعوا من كل أرجاء المحروسة، جمعهم المرض والفقر والرباط المقدس، من أقصى جنوب الصعيد حتى شماله هنا سكنوا برفقة بعضهم البعض، عانوا وتألموا لأكثر من 70 عامًا، و لم يفرقهم سوى الموت، شوارع سكنها الهدوء ومنازل بسيطة علاها التهميش والفقر، ملامح وجوههم تميزهم عن غيرهم، وأجساد تسمع صوت أنينها، عاشوا لسنوات بعيدًا عن صخب المدينة وزحامها، هاجروا من قرى صغيرة بالمحروسة فى سنوات طفولتهم رُغمّا عنهم، تركوا الأهل والأصحاب بعد إصابتهم بما يسمى بمرض الجذام، هذا المرض الذى لم يكتف فقط بالنيل من جسد ضحيته؛ بل جعله محلّ حديث الكثيرين حوله لما يسببه من تغيرات فى ملامحهم الخارجية، فعاشوا سنوات طوال بين تلك الحواري الضيقة فى عزبة منعزلة عن كآفة الخدمات الطبيعية للحياة الآدمية.
"عزبة الصفيح" إحدى القرى التابعة لمدينة أبو زعبل، بمحافظة الدقهلية، العشرات من قاطنيها من مرضى الجذام، عرفت قديمّا باسم عزبة الشهيد عبد المنعم رياض، خصصتها الدولة لمرضى الجذام لأكثر من 50 عامّا مضت، العزبة تفتقر لعدد من الخدمات ، والتى تعد حقا من حقوق مواطني الدولة، فهى بلا تعليم ولا صرف صحي، عدد كبير من سكان العزبة مصابون بالمرض وبعضهم متزوجون بأصحاء، والبعض الآخر أزواج لمرضى، ورغم ذلك لم تنتقل عدوى الجُذام إلى ذويهم، إلّا أنّ الجميع يتعاملون مع أهل القرية وكأنّهم بمثابة الفيروس المتنقل على الأرض يخافون الاقتراب والتعامل معهم، وأثر هذا الأمر على صغارهم فالخوف فى طريق حرمانهم من التعليم، خاصة بعد عدم وجود مدرسين بالمدرسة الوحيدة بالعزبة، لتيقنهم بأنّ مرض الجذام من الأمراض الخطيرة التي تنتقل بسهولة.
"عطيات".. بنت المنصورة صاحبة التسعين في عزبة الصفيح
حجرة قديمة لم تتجاوز الأمتار القليلة صنعت بالطوب الأبيض، تقع فى بداية أحد شوارع العزبة الصغيرة، باب بدا عليه آثار القدم، فى ركن صغير جلست، بجسد منهك وعمر تخطّى الـ90، وملامح تشبه كثيرا من القاطنين بالقرية، أطراف أيدى مصابة، وجه رسم عليه لوحة سجّلت سنوات عديدة من المرض، عينان تزينا باللون العسلى، يجذبك جمالهما فور أن تنظر إليها، فتاة جاءت فى عمر الـ11 من قريتها الصغيرة بدلتا مصر، بعد إصابتها بمرض الجذام للحصول على العلاج بداخل المستعمرة.
كان منزل عطيات رزق العجوز السبعينة هو وجهتنا الأولى فور وصولنا للعزبة كونه يقع في مدخلها، "عطيات" الفتاة الصغيرة التي رافقت والدها قبل سنوات في رحلة ذهاب إلى العاصمة الكبرى، قادمة من قريتها التابعة لمدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، بعد علم أهلها بالمرض لتحصل على العلاج بالمستعمرة، وبعد خروجها استقرت هنا فى العزبة، الفتاة كادت أن تطير فرحا فلأول مرة ستذهب إلى القاهرة التى لم تسمع عنها سوى من بعض أقربائها، لكنها لم تدر ك أنّ تلك الرحلة ستكون الأخيرة، فالحلم سيتحقق ولكن بشكل مختلف عمّا توقعته .
"أنا عشت عمرى كله فى المستعمرة، زمان أهلي كلهم ماتوا، معرفش عنهم حاجة".. سنوات قضتها الفتاة بداخل مستعمرة الجزام، حتى بدأت تنضج فقررت العمل بالمستشفى، خاصة وأنّ لا ملجأ لها سوى هذا المكان، أهلها لا تعلم عنهم شيئّا، قريتها الصغيرة لم تتذكر منها سوى لحظات من لهوها مع الصغار أمام منزلهم ، وظلت سنوات لا تعلم شيئا عن أهلها باستثناء أحد أبناء خالتها الذي يتردد لزيارتها بالمستعمرة بين الحين والآخر، حتى انقطعت أخباره هو الآخر منذ عدة سنين.
الفتاة كانت خير مثال على الجمال، لم يمنعها المرض والعيش فى المستعمرة بأن تبحث عن الحب، الكلمة التى وجدتها متجسدة فى شخص ما، شاب ترك أهله هو الآخر وجاء للعيش بالمستعمرة، بعد إصابته بالجزام، تزوجت عطيات من رفيقها الشاب الصعيدى بالمستعمرة وخرجا ليقطنا سويّا بعزبة الصفيح.
سنوات عديدة مرت على زواج "عطيات"، ولم يشأ القدر أن ترزق بطفل، لكن وبسبب ضيق العيش ومرارة الحياة والتي تغلبت على الحب في قلب "عطيات"، قررّت أن تنفصل عن زوجها، وظلت تعمل بالمستعمرة نهارًا وتعود آخر اليوم لتقطن بالعزبة، حتى قررت الزواج مرة ثانية من أحد المرضى المتواجدين، وعاشت معه فترة حتى وافته المنية، فتزوجت من ثالث وظلت معه حتى رحل هو الآخر وتركها وحيدة بلا أنيس، فقط الوحدة كانت أنيستها ورفيقة دربها.
العجوز تعيش فى حجرة بمفردها لم تعد تقوى على فعل شىء، تعيش على طعام المستعمرة الذى يجلبه لها بعض من أهل العزبة الذين يعملون بها، لم تعد تريد من الحياة شيئا سوى أن تعيش ما تبقّى من عمرها عيشة آدمية، فهى كانت تنام على أرض حجرتها الصغيرة؛ حتى تبرّع البعض وجلبوا لها أثاثا بسيطا وعملوا على ترميم حجرتها، فلولا عناية أهل العزبة بها هى ومثيلاتها من كبار السن لحدث ما لا يحمد عقباه لها وتدهور حالها أكثر.
"محمود".. 50 عامًا من المستعمرة للعزبة باحثًا عن الحياة
جلباب صعيدى بسيط وشعر أبيض يدلان على مرور الزمن عليه، ملامحه اعتلاها الحزن وترك المرض علامات بها، أطراف يد بدت غريبة بعض الشىء، يُحاول دائمًا إخفائها عن أنظار الجميع، وقف من بعيد يختلس النظرات بين الحين والآخر، كان حديثه هجوميّا رفض التكلم مع الغرباء، بل منع تواجدنا بالمكان، بعد وقت طويل حاولنا معرفة السبب وراء هذا الهجوم الشرس، لنكتشف فيما بعد أنّه يرفض المتاجرة بهم وبحالاتهم فقط، فلم يأت أحد للعزبة وساعدهم من قبل، لذا فقد كره معظمهم الغرباء القادمين.
"أنا هنا بقالى 50 سنة.. جيت وأنا عندي 12 سنة من الصعيد ". عجوز سبعينى يلقبونه أهل العزبة بـ"عم محمود" قبل حوالي نصف قرن أخبره أهله أنّه مريض وسيغادر إلى العاصمة لتلقى العلاج، بعد سنوات قضاها بالمستعمرة اكتشف أنّه لم يكن بمفرده هنا، فتصادف وجود عددا من أقاربه بداخلها أصابهم المرض أيضّا فتركوا قريتهم الصغيرة بالصعيد وقدموا إلى أبو زعبل.
يعيش العجوز السبعينى بالعزبة وكأنّها قريته التى ولد بها، فأثناء علاجه بالمستعمرة تعرّف على زوجته والتى كانت ترافقه بالمستشفى، وبعد الزواج استقرا بالعزبة وباتت بمثابة وطنهما الأصغر، "أنا اشتغلت فى الجبل من 20 سنة علشان نقدر نعيش بس للأسف مكملتش فيه".. ولأنّ العزبة تبعد بمسافات كبيرة عن أقرب مدينة، بالإضافة إلى أنّ الكثير من الأصحاء يخافون التعامل مع أهلها بدعوى أنّ المرض معد، فالكثير من أبنائها ما بين عاملين بالمستعمرة، وبعض منهم يعمل بالمصانع المجاورة لهم، "عم محمو"د كان له عمل بخلاف السابق، فقررّ الذهاب والعمل بالجبل لكن مشقته دفعته للعودة وعدم الاستمرار وعاد للعمل فى موطنه الأصلى بداخل المستعمرة.
مطالب العجوز السبعينى كانت أبسط مما يتخيل أحد، فهو يريد فقط العلاج، خاصة وأنّ تقدمه بالعمر جعله عرضة للإصابة بأمراض فيروسية رافقت الجزام بجسده، ولم توفر له المستعمرة العلاج لتلك الأمراض مما يدفعه لشراء علاجها على نفقته الخاصة، والعجوز لا يملك من الدنيا شيئا سوى 300 جنيه معاش التضامن الاجتماعى، الذى يعد هو دخله الأساسى ولا يوجد سواه.
"أنا عشت فى العزبة وعمرى مافكرت أخرج منها.. هفضل لغاية لما أموت"، بالرغم من المعاناة التى يلاقيها أهل العزبة، إلّا أنّهم لا يفكرون فى الخروج منها، خاصة وأنّهم من قاموا ببنائها لذا ليس من السهولة أن يتركوها ويرحلون بعيدا عنها، لكن أقصى أمانيهم هو النظر إلى مطالبهم البسيطة ومعاملتهم كمواطنى الدولة لهم حقوق وعليهم واجبات، لكن الحقيقة أنّهم يتعاملون كونهم أموات مدفونين بتلك الأرض بعيدا عن المدينة.
"عبد العزيز".. سبعيني خرج من المستعمرة ليعود من جديد إليها
بالقرب من محمود جلس شخص آخر يعتقد من يشاهدهما أنّهما توأم لشدة التقارب بينهما، حتى ملابسهما واحدة، ملامح وجهيهما لا تختلف كثيرّا وكأنّهما شخص واحد، هذا الشخص الذى جلس شاردا يفكر فيما ألمّ به وبأبناء عزبته الصغيرة، "أنا إسمي عبد العزيز عندى 78 سنة، وجيت المستعمرة وأنا عمرى 11، وخفيت وخرجت ورجعت المستعمرة تانى"، قدم "عبد العزيز" إلى القرية من مدينته بالصعيد وهو فى الـ11 من عمره، ظلّ يعمل بالمستعمرة حتى أتمّ شفائه من المرض، فقررّ الخروج والعمل بعيدا بل العودة لأهله، فعمل فى إحدى الوظائف وظلّ هكذا سنوات حتى أصيب مرة ثانية فعاد من جديد، وكأنّ القدر لم يشأ أن يذهب بالعجوز بعيدّا فأعاده للمستعمرة مرة ثانية.
تزوّج عبد العزيز مرتين، زوجتاه كانتا مريضتين أيضًا، حيث تعرّف عليهما بالمستعمرة، وعاش معهما حتى فارقتا الحياة، فلم يخرج من تلك الدنيا إلّا بابنته الوحيدة التى تبلغ من العمر خمسين عامّا و4 أحفاد، ولأنّ العجوز خرج من قبل من المستعمرة وعاد إلى قريته، فتواصل مع عدد من أقربائه والذين ما زالوا على تواصل معه حتى الآن، يذهب إليهم بين الحين والآخر للاطمئنان عليهم خاصة وأنّه بات وحيدا بعد وفاة زوجتيه.
العجوز السبعينى، ما زال يعمل بالمستعمرة حتى اليوم، فهى مصدر رزقه الوحيد ولا يوجد سواها، يذهب صباح باكر إليها ويعود منتصف اليوم إلى منزله بالعزبة، وهكذا حياة عبد العزيز،
وعلى الرغم من خروجه على المعاش؛ إلّا أنّه ترك العمل الرسمى واستمر فى عمله بالمستعمرة، الجميع يؤمن أنّ مرض الجذام معد بدرجة كبيرة، لذا وعلى حد قول العجوز السبعينى فإنّهم يخافون الاقتراب والتعامل معهم، لكنّ الحقيقة كشفها الواقع فلو كان المرض معديّا لمرض الصغار قبل الكبار بالقرية، لكن هذا لم يحدث فهناك كثير من الأطفال أصحاء وغير مرضى، ويعيش هنا بالقرية أبناء أصحاء برفقة ذويهم المرضى دون أن يحدث لهم عدوى أو أى شىء آخر، فهم يؤمنون أنّ المرض لا يصيب إلّا من يتشائم منه لكنّهم جميعّا أصحاء ومرضى يتعاملون معه طبيعيا ويحثون أطفالهم على هذا الأمر، ليكسر الواقع حاجز الخوف لكنهم أيضّا ما زالوا مقتنعين بتلك الفكرة ولن يتم تغييرها مطلقّا، فمعاناة هؤلاء الحقيقية تكمن فى المجتمع قبل كل شىء.
"الجدة نادية".. عجوز تعيش برفقة أطفال الحي بعد رحيل زوجها
فى مدخل العزبة وكمثيلاتها من كبار السن القاطنين بهذا المكان، لا يمتلكون سوى حجرة صغيرة، بعضها بالطوب الأبيض وأخرى باللبن، بملابس صعيدية وشال أسود وضع أعلى رأسها، جسد صغير ،عينان لا تكاد ترى النور من المرض وكبر السن، جلست أمام منزلها تداعب الأطفال الذين يلهون حولها، وكأنّها تتمنى لو يعود الزمن سنوات فتصبح برفقتهم، لكن المرض نال من جسدها فلم تعد تقوى حتى على السير، فبات باب منزلها هو مستقرها كل يوم من شروق الشمس إلى غروبها.
"أنا جيت العزبة من 40 سنة اللى فاكراه إنى من بنى سويف لكن معرفش أهلى مين ولا فين" "الجدة نادية" اللقب الذي يردده الأطفال هناك، عجوز فى السبعين من عمرها، جاءت فى عمر الـ25 من قريتها بمحافظة بني سويف، حينما أخبرها طبيب القرية أنّها مصابة بمرض الجذام وعليها السفر للعلاج بالمستعمرة ، الأمر لم يكن جديدا على نادية خاصة وأنّ أحد أقربائها أصيب بالمرض من قبل ، وحينما علم بإصابتها هى الأخرى تقدّم لخطبتها وشجّعها على السفر لتستقر معه بالمستعمرة.
سنوات قضتها العجوز نادية برفقة زوجها يعيشان بالعزبة، بالرغم من ضيق معيشتهما لكنّهما اعتادا عليها، حتى فارقها الزوج منذ أشهر قليلة لتعيش بمفردها بلا ونيس، وحيدة فى منزل لا يوجد به سوى بعض الأثاث المتهالك، العجوز لا تمتلك الاحتياجات الطبيعية للإنسان فمنزلها خال من أي أجهزة كهربائية، وتعيش على طعام المستعمرة ، تجلس "نادية" يوميّا أمام منزلها تنتظر أطفال جيرانها الصغار يجلبون لها الطعام والشراب، ويلهون أمامها ساعات طوال من اليوم عسى أن تحتاج شىء،: "أهلى ماتوا كلهم والعزبة بقت هيا مكاني الوحيد ".
نساء القرية: الجمعيات الخيرية رفضت مساعدتنا بسبب المستعمرة
أمام أحد منازل القرية البسيطة، وقفت عدد من السيدات يتهامسن فيما بينهن، يحاولن معرفة مايدور حولهن، فهناك غرباء بداخل العزبة لم يعتادوا على وجودهم، لتهم إحداهن بالسؤال، وبعد معرفتها طلبت الحديث عن حال العزبة وما تعانيه منذ سنوات، "أنا اتولدت هنا، أهلى من العياط أبويا وأمى مرضى وجوزى مريض، محدش بيعبرنا هنا".. "كوثر" سيدة فى الخمسين من عمرها، كان والدها مريض جزام جاء طفلا من مدينة العياط منذ سنين واستقرّ فى المستعمرة ليتعرف بوالدتها المصابة بنفس المرض بداخلها وتزوجا وأنجباها هنا في تلك الأرض، ولم تسلم الفتاة هى الأخرى من المرض بل أصيبت ومكثت بالمستعمرة سنوات، تعرّفت أيضّا بداخلها على زوجها الراحل، المستعمرة والعزبة هى حياتهم وملجأهم الوحيد ولا يوجد لهم مكان سواها.
عملت "كوثر" بمساندة عدد من جيرانها بالعزبة للذهاب إلى عدد من الجمعيات الخيرية ، جمعية واحدة فقط دون ذكر اسمها هى من عملت على مساعدة العزبة، لكن شاء القدر ألا تكون كوثر من ضمن هؤلاء، بالرغم من أنّ السيدة توفى عنها زوجها وهي العائل الوحيد لأسرتها الصغيرة، لكن جمعية الخير أبلغتها أنّها مريضة جزام تتبع للمستعمرة وهى الوحيدة فقط المتكفلة بهم وباحتياجاتهم.
الغريب فى الأمر أنّ القائمين على المستعمرة هم الآخرون أخبروا كوثر وعددا من رفقائها واللواتى يشبهن حالتها بأنّ المستعمرة لا علاقة لها بهن، فهن قد رحل أزواجهن وأصبحن عائل الأسرة الوحيد وبالرغم من ذلك إلّا أنّ الجميع تهرّب من المسئولية نحوهن، فيعشن هؤلاء فى ضيق من الحياة لا يعرفن حلّا لما وصلن إليه، حاولت "كوثر" ومثيلاتها بالعزبة تدارك تلك الظروف الصعبة، فبدأن بالعمل فى مصانع مواد البناء كالرمل والزلط، بالإضافة إلى عمل بعضهن فى مصانع فرز القمامة، فبالرغم من حصول عدد منهم على 300 جنيه معاش وزارة التضامن، إلّا أنّ ارتفاع الأسعار جعلت هذا المبلغ لا يكفى شيئا، خاصة وأنّ هناك عددا كبيرا منهن ما بين الأرامل والمطلقات، وترتّب على هذا الأمر أشياء عديدة أبرزها حرمان عدد من صغار القرية من التعليم، فهم يحصلن على قوت يومهن بصعوبة كبيرة كيف سيتمكن من تعليم صغارهن، غير أنّ هناك بعضهن أيضّا يعيش فى غرف بالإيجار فى العزبة، وعلا صوتهن كثيرّا مطالبات بأن يعشن حياة آدمية لكن لا يسمع لهن أحد.
بالقرب منها جلست بملابس بسيطة، عباءة سوداء وطرحة تغطى شعرها، 20 عامّا قضتها "دعاء" فى التنقل بين المستعمرة والعزبة، جاءت من أقصى شمال مصر وتحديدّا من محافظة كفر الشيخ، بعدما علمت إصابتها بمرض الجزام وهى فى عمر العشرين، تركت أهلها وحياتها لتنتقل إلى حياة أخرى جديدة مجهولة لا تعلم عن مصيرها شيئا بها.
"أنا جيت من كفر الشيخ للقاهرة لما تعبت وعشت فى المستعمرة حياة تانية".. لم تطلب دعاء الكثير بل نادت بأبسط حقوقها هى وأبنائها الصغار ، مدرسة بلا مدرسين، عزبة بلا أي خدمات الأطفال ينشؤون فى بيئة غير مناسبة لا يتوفر بها أي شىء لخروج جيل صالح، لكن وبالرغم من كل ذلك إلّا أنّ دعاء وزوجها المريض أيضّا لا يفكران مطلقّا فى مغادرة العزبة، فلن يستطيعا العيش فى مكان آخر لكنهما يكتفيا بتوفر الخدمات ولن يطالبا بالمزيد نهائيّا.
مدرسة الأمل.. هروب المعلمين خوفًا من العدوى والمدير يقوم بمهامهم
مدير مدرسة الأمل الابتدائية، بمنطقة عبد المنعم رياض، التابعة لمدينة أبو زعبل بمحافظة القليوبية، والذى كشف عن حقيقة عدم وجود مدرسين مطلقّا بالمدرسة، فقال إن المدرسة المتواجدة بالقرب من عزبة الصفيح والتى يعيش بها مرضى الجزام، تعانى من نقص شديد بالمعلمين، وبالرغم من تقديم الكثير من الطلبات للبحث عن حلول لتلك المشكلة؛ إلّا أنّه وفى كل مرة تعمل الوزارة على الحل لكن بلا فائدة، فالمدرسون أنفسهم إمّا خائفين من عدوى مرض الجزام، أو بسبب بعد المسافة، فالعزبة تبعد مسافات طويلة عن أقرب مدينة لها.
5 سنوات مرت على افتتاح المدرسة أبوابها، وبها ما يقرب من 300 طالب، فهى تتكون من 6 فصول للمرحلة الابتدائية، وبالرغم من ذلك إلّا أنّ المدرسة لا يوجد بها سوى 3 مدرسين فقط من ضمنهم المدير وأنّ طاقتها الحقيقية تفترض أن تكون 11 مدرسّا، وبالرغم أيضّا من أنّه مدير المدرسة إلّا أنّه يقوم بأفعال ومهام عديدة، فيعمل كمدرس ومشرف وعامل وأمين مخازن، ويحاول برفقة اثنين من المدرسين أن يقوموا بجهد واسع من أجل حصول الطلاب على مادة علمية.
ويخالف رأى مدير المدرسة أولياء الأمور بالعزبة، فردّا على حديثه، ذكروا أنّه لا يحاول السير ولو خطوة واحدة تجاه حل تلك الكارثة، فأبنائهم الصغار يظلون بداخل "حوش المدرسة" حتى ميعاد انتهاء اليوم الدراسى، ويعملون على تفادى تلك الكارثة بالدروس الخصوصية، ولأنّ حال الكثيرين منهم لا يسمح بتلك الأمور ففضلوا حرمانهم من التعليم نهائيّا.
المدير مرة أخرى قال إنّ إدارة التربية والتعليم، عملت على حل تلك المشكلة، فبدأت بندب مدرس للغة الإنجليزية لمدة يومين فقط فى الأسبوع يدرس حصصه، ويغادر، إلا أن عدم تواجده بشكل مستمر فى المدرسة يسبب أزمة أكبر ولذلك فالعجز قائم حتى الآن، وعلى حد قوله فقد حرص على تقديم أكثر من 6 مذكرات لوزارة التربية والتعليم منذ بدء الدراسة لتوضيح الوضع العام للمدرسة، وحل المشكلة، لكن دون جدوى.
وكيل "التعليم" بالقليوبية: استحالة عدم وجود معلمين في المدرسة
وكيل وزارة التربية والتعليم بمحافظة القليوبية، طه عجلان، رفض- فى بداية حديثه- تصديق المعلومة التى قالها مدير المدرسة، فكيف لمدرسة أن تشتمل على 3 معلمين فقط يقومون على العملية التعليمية لما يقرب من 300 طالب، مؤكدّا عدم ورود شكاوى إليه من أهل العزبة أو حتى من مدير المدرسة، الأمر الذى بدوره يناقض حديث الأهالى ومدير المدرسة والذين أكدّوا تقدّمهم بعدد كبير من الشكاوى للمسئولين بوزارة التربية والتعليم بالمحافظة لكن لم ينظر إليها أحد.
وتابع وكيل وزارة التربية والتعليم بمحافظة القليوبية، أنّ الكثير يرهبون من مرض الجذام خاصة وأنّ عدواه تنتشر فور ملامسة الشخص المريض؛ لذلك يخشى البعض من الذهاب إلى تلك المنطقة، مما يجعلنا نواجه صعوبة بالغة فى إقناعهم بالذهاب.
نائب الدائرة: الناس بتخاف تقرب من المكان.. والمشكلات صعب تتحل
"مستعمرة الجزام وعزبة الصفيح المجاورة لها بأبو زعبل خالية تمامًا من الخدمات".. هكذا بدأ النائب حسين عمر حسنين، عن دائرة أبو زعبل حديثه، فقال إنّ مستعمرة الجذام تعد من أسوأ المستشفيات المعالجة للمرض فى العالم بأكمله؛ لانعدام الخدمات بها، الأمر الذى دفعه إلى تقديم طلب إحاطة موجه لرئيس الوزراء عن مستشفى الجزام والمنطقة المحيطة بها، لكن لا توجد أي استجابة من الوزارات المعنية وتحديدّا وزارة التضامن، والتى تقدّم لها عدد من الطلبات للقيام بعملية التطوير الخاص بمستعمرة الجزام والمنطقة المحيطة بها، حيث إن حال العزبة يعتبر هو نفس حال العزب المجاورة لها فى مركز الخانكة.
مرض الجزام يعد من الأمراض المعدية؛ مما يدفع الناس إلى النفور من التواجد معهم، خوفًا من الحالات المعدية، حيث أنه يصيب الأطراف أولًا، فينتقل بالسلام باليد، وبالرغم من وجود عدد من التقارير التى أثبتت أنّ المرض غير معد إلّا فى حالات التواصل المتكرر وبأمور معينة؛ لكن النائب هو الآخر أصرّ على أنّ المرض معد؛ لذا يخاف الكثيرون الاقتراب من العزبة، ولذلك فهى تفتقر للخدمات.
وبالرغم من أنّ النائب البرلمانى يعد من ضمن المسئولين الأساسيين عن القرية، فكان من أبسط الأمور معرفته بأنّ المدرسة المتواجدة بها لا يوجد بداخلها سوى 3 مدرسين فقط، لكنّه بررّ هذا الأمر بأنّ المرض يحول دون ذهاب الكثيرين لهذا المكان، وعلى حد قوله فلا يمكن أن نُحمل وزارة التربية والتعليم المسئولية، خاصة وأنّها بالفعل من الممكن أن ترسل مدرسين، لكنهم يرفضون القدوم بدعوى أنّ المرض معد، ولا يمكن التعامل مع أهل العزبة، لذا فالحل صعب.
أستاذ أمراض جلدية: المرض معدٍ حال التلامس المباشر فقط
الدكتور محمد العابد، أستاذ الأمراض الجلدية، كان له حديث عن مرض الجذام، فذكر أنّ المرض يأتى عن طريق بكتيريا تصيب الأعصاب والحبل الشوكى فى الأصل، وتظهر على الأطراف والجلد، وتنتقل فى بعض الحالات عن طريق الاختلاط بالمريض بطريقة مباشرة، لكن ملامسة المرضى والاختلاط معهم بطريقة غير مباشرة؛ لا يمكن أن تنقل المرض فيما بينهم.
الجذام مرض يبدأ من النخاع الشوكى حتى يظهر على الجلد؛ فيحدث تشوها عن طريق بروز ملحوظ فى الجلد، ويشفى المريض؛ لو تلقى العلاج فى بداية مرضه، وكلما تأخر؛ صعب علاجه، وبات مرضا مزمنا لا يشفى منه أبدًا، كما أنّه مرض قديم، وهناك حالتان من الجذام "الأولى" يتم شفاؤها خلال 6 أشهر، والأخرى تطول مدة العلاج، ولو تأخر المريض؛ لا يمكن أن يشفى نهائيًا منه، ويعيش ملازما له طوال حياته، حسب حديث أستاذ الأمراض الجلدية..
محمود فؤاد: إمكاناتنا محدودة لمساعدة المصابين والأهالى
الدكتور محمود فؤاد، عضو مركز الحق فى الدواء، وأحد المدافعين عن مرضى الجذام، والمطالبين بحصولهم على كافة الخدمات المستحقة لهم كأبسط حق للحياة الآدمية، أوضح أنهم منذ فترة حاولوا إنشاء لجنة تختص بمرضى الجذام وتكون مسئولة عن مشكلاتهم وتوفير الخدمات لهم ومساعدتهم فى المعيشة والعلاج، ولكن لم تنل هذه الفكرة تشجيع أحد، خاصة من منظمات المجتمع المدنى، والتى كان من الممكن أن يكون لها دور رائد وأساسى فى هذا الأمر.
الغريب أنّ البعض يحاولون الابتعاد عن هذا الأمر معتقدين أنّ العدوى تنتقل بسهولة، لكن هذا الفهم خاطئ فهناك أشخاص يساعدون المرضى ويذهبون إلى المستعمرة ولم ينتقل المرض إليهم، وهذا الفهم المنتشر به نسبة خطأ كبيرة، لكن الآن فالحديث عن البحث عن حلول للمشكلات التى يعيشون بها، حياتهم غير الآدمية ونقص الخدمات، وسوء المعيشة بالكامل، يحتاج إلى الوقوف والبحث عن مساندتهم، لكن هذا الأمر لن يقتصر فقط على منظمات المجتمع المدنى أو الجمعيات الخيرية، التى تحاول المساعدة فى إيجاد حلول للمشكلات لكن الحل الأكبر فى أيدى مسئولى الحكومة.
وبحسب حديث عضو "الحق فى الدواء"، فإنّ الدولة عليها أن تقوم بعمل بحث اجتماعى على تلك الحالات والسير فى طريق الإجراءات التى تحميهم وتوفر لهم أبسط سبل الحياة من معاش اجتماعى وغيره، موضحّا أنّ الدولة تستطيع أن تفعل الكثير لهؤلاء خاصة وأنّ أعدادهم ليست كبيرة بالحجم الذى تؤرق فيه ميزانيتها، فهناك العديد من الأفكار والمقترحات لحل تلك المشكلة لكن قبل طرحها يجب أن يكون هناك وعد من الدولة أنّها ستعمل على تنفيذ تلك الأفكار، وحينها سيتم طرحها وسيتعاون الكثيرون مع الحكومة.
طبيب متخصص: الداء له عدة مراحل ووزارة الصحة سبب في هروب الأطباء
مصطفى صقر، طبيب جلدية متخصص فى علاج مرض الجذام، إنه مرض يصيب الجلد والأعصاب حتى يصل إلى الأطراف فيعمل على تخديرها مع بعض التشوهات الظاهرة بالعين، ويسمى بـ"باسيل الجذام" وينتقل المرض عن طريق العدوى بالأنف، وتتراوح مدة العلاج بين سنة إلى 5 سنوات، ومستعمرة الجذام تعتبر الموطن الأساسى لمرضى الجذام؛ لما يقابلهم من مضايقات عند الخروج، سواء بالكلام أو نظرات الاشمئزاز، فأصبحت ملجأهم الوحيد، فأغلب المواطنين لا يعلمون حقيقة مرض الجذام ويأخذونه على أساس أنه مرض معد فقط ولا يتطرقون للجانب الآخر منه، وهو أن الجذام ينقسم إلى مراحل متتابعة، منها ما يلى:
المرحلة الأولى.. وأعراضها تعد أكثر خطورة لأنها تبدأ بظهور بقع وتصبغات جلدية حتى يصل إلى ضعف العضلات والأطراف ويصل إلى الأعضاء التناسلية والأنف، ويعد فى المرتبة الأولى من العدوى.
المرحلة الثانية.. تعد أخف من المرحلة الأولى فهى تظهر على شكل بقع داكنة على الجلد وأخف ألمًا وتعمل على تخدير خفيف فى الأعصاب، وتأتى فى المرتبة الثانية من العدوى.
ووفقا لحديث "صقر" فإن هروب الكثير من الأطباء والممرضات من المستشفى لعدة أسباب؛ منها بُعد المسافة وعدم توفير وسائل مواصلات آمنة، والخوف من العدوى فى ظل عدم توفير الوزارة لهم بدل للعدوى؛ مما يعود على المريض بالسلب صحيًا ومعنويًا، والذى يعانى من فقر الخدمات وقلة الرعاية، مناشدًا وزارة الصحة بضرورة التعاون مع منظمات المجتمع المدنى لجمع التبرعات لتطوير المستشفى وتوفير أطباء معالجين بها لتقديم الرعاية الكاملة للمريض وتوفير العلاج اللازم له.