"رزق مر".. حكايات من دفتر مآسي الصيادين

السبت 28 ديسمبر 2019 | 10:44 صباحاً
كتب : سارة أبو شادي

هدوء حذر أمواج تصطدم بالشاطئ بقوة ،عجوز يجلس يحرك الرمال بيده، وسيدة تبكي في صمت، شاب علا الخوف ملامح وجهه، وطفلا صغيرا يلهو بجواره، الجميع ينظر في اتجاه واحد، وكأنّهم ينتظرون شيئًا، يرفعون يدهم بالدعاء ، لحظات مرت عليهم أدركو حينها أنّ ذويهم رحلوا بلا عودة.

أناس ذهبوا للبحث عن الرزق بين موجات المد العاتية تلاطمهم الأمواج وهم على متن قواربهم التي لا تقوى على مجابهة المخاطر في عرض البحر، فهى غير مجهزة حتى بأقل وسائل الأمان، الموت يرافقهم فور خروجهم من المياه فإمّا أن يعودو لذويهم بالرزق أو أن يخطفهم البحر في ظلماته.

"ضحايا الصيد" مهنة تعد من أصعب المهن أصحابها يواجهون مخاطر عدة، فإنّا الموت غرقا في وسط البحر، أو العودة بإعاقة أوحتى العيش على هامش الفقر، وبالرغم من كون تلك المهنة يعمل بها الآلاف بل الملايين إلّا أنّ الدولة لم تهتم بتلك الفئة بل همشتها وزادت على معاناتهم معاناة أكبر وهي عملية المنع التي تقوم بها تجاههم.

حاولنا الحديث عن معاناة تلك الفئة فذهبنا إليهم، إلى إحدى مدنهم "مدينة أبو قير" تلك المدينة التي جمعت الكثير من حكايات هؤلاء، فما بين أم فقدت صغيرها، وأب رحل سنده، وصغير لن يرى والده مرة ثانية، وشاب أقعدته إصابة بالغة، وزوجة تحملت المسؤولية مبكرًا، هناك الكثير من الحكايات في تلك المدينة الصغيرة، الحكايات التي كان الصيد هو بطلها الأوحد.

الصيادين

عدد الصيادين في المحروسة

في آخر إحصائية تحدثت عدد العاملين في مهنة الصيد في المحروسة، ذكرت أنّ إجمالى الصيادين يقترب من 32 ألفاً، والعمالة المباشرة التى تشمل الملاحين والبحارة نحو 300 ألف، أما غير المباشرة تصل إلى 135 ألفاً بخلاف العاملين فى مصانع التجزئة ومصانع الثلج، ومن يتعاملون فى مهنة الصيد ويتعايشون عليها يمكن تقديرهم بمليون و100 ألف أسرة يشكلون نحو 5 ملايين مواطن.

"عجوز أبو قير".. عشق الصغر تحول إلى معاناة

لحية بيضاء وملامح وجه تحمل الكثير من الحكايات، جسد هزيل وعينان بها مزيد من القصص، بجلباب بسيط وشال يلتف حول عنقه، جلس محمد عبد العظيم، صياد عجوز من مدينة أبوقير تجاوز السبعين من عمره، قضى 60 عامًا منهم في وسط البحر ، خرج صغيرا يلهو في الميناء لشابا يواجه الأمواج بحثا عن المستقبل مرورا برجلا يقود مركبه الصغير نهاية بعجوز في السبعين يحمل عصاه في يده يتكئ عليها ليبحث عن رزقه في البحر.

العجوز السبعيني أحد الصيادين القاطنين في مدينة أبو قير، يعمل صيادا منذ نعومة أظافره، كان يرافق والده في الصغر خرج عاشقًا لمهنة الصيد، لم يدري أنّ هذا العشق سيتحول فيما بعد إلى معاناة، 60 عامًا قضاها العجوز في وسط البحر واجه الموت مرات عدة لكن هذا لم يمنعه من استكمال مسيرته.

بدأ العجوز يقص حكايته فقبل سنوات لم يكن الصياد يعاني هكذا، اليوم، تبدّل الحال بات الوضع أصعب مما كانوا عليه قديما، كانت الدولة تعامل الصياد كونه أحد أركان الأمن الغذائي، تدعمه من اتجاهات عدة إمّا بالمعدات التي يحصل عليها والتي كانت تدخل إليهم بأسعار مخفضة ودون جمارك مرتفعة، عن طريق الجمعيات التي كانت تختص بمساعدة الصياد البسيط، لكنّ الوضع اختلف كثيرًا فتبدل الحال بحسب حديث العجوز اختفت الجمعيات وارتفعت أسعار المعدات ولم تعد الدولة تعترف بالصياد.

الحزن ونبرات الصوت المتقطعة رافقت السبعيني أثناء حديثه، وكأنّه بدأ يسترجع ذكريات الماضي، يقارنه بما يحدث اليوم، لم يدري أنّه في هذا العمر سيعاني هكذا من المهنة التي لطالما عشقها ولم يفكر أن يتركها مطلقا، العجوز محمد بدأ يقص جزء من معاناته والتي كان أهمها ضيق العيش، فلم يعد يمتلك الصحة والقوة التي تجعله يذهب يوميا إلى البحر للصيد حتى يستطيع الحصول على قوت يومه وأبنائه وأحفاده، ولم يفكر المسؤولين مطلقا أن يوفروا لكبار السن منهم معاشًا يكفي حتى شراء الأدوية على حد قوله.

فيواجه العجوز ورفاقه كارثة التأمين، فلن يستطيع الحصول على معاش شهري إلّا لو قرر صاحب المركب أن يؤمن عليهم، هنا سيصبح من حقهم الحصول على معاش بسيط يسد جزءا من احتياجاتهم، أمّا لو لم يقم صاحب المركب بتلك الخطوة فسيظل هؤلاء مهمشين دون دخل سوى الصيد، حتى لو فكروا البحث عن مهنة أخرى فلن ينجحوا في هذا الأمر لأنّ الصيد بات مهنتهم الوحيدة التي لن يستطيعوا البحث عن غيرها.

لم يكن المعاش أو حتى مصدر الدخل هو الأزمة الكبرى لدى هؤلاء، فالبساطة التي يعيشون بها وقناعتهم التامة وحبهم للمهنة لم تجعلهم يتطرقون كثيرا لتلك الأمور لكن الأزمة الكبرى بالنسبة لهم كانت "المنع"، " بيمنعونا من نزل البحر بالـ20 يوم وأول لما بيبدأ المنع بنعرف إننا مش هنلاقي قوت عيالنا الأيام دي"، كانت مدينة أبو قير نموذجًا للعديد من المدن المصرية التي عملت في مهنة الصيد، ونفس الأزمة تكررت في أغلبها وهي عملية المنع من الصيد التي تصدرها الدولة في أوقات بعينها .

كان الصياد يستيقظ فجرا يحمل شباكه ومركبه الصغير حتى يبدأ عمله قبل شروق شمس الصباح ، منهم من يرمي شباكه ويظل بجوارها حتى تخرج رزقها وآخرون يرمون الشبك ويعودون لمنزلهم حتى المساء ليعاودوا إلى البحر لجمع السمك، لكنّ قرار غلق الميناء ومنع نزول الصيادين التي تصدره عدة جهات سبب أرقا كبيرًا للصيادين الذين يحصلون على قوت يوميهم من هذا البحر، ولذلك فمنع النزول إليه يعني أن يظل هؤلاء دون أموال أو عمل طوال أيام المنع والتي تكاد تصل إلى 20 يومًا ومن الممكن أن تتخطى هذا الرقم.

وما زال العجوز السبعيني يتحدث عن معاناته التي عاش بها وسط أبناء بلده ومهنته سنوات عدة وتطرق إلى أزمة أخرى تدفعهم للجلوس بمنازلهم"النوة لما بتيجي مبنقدرش نقرب من البحر النوة بموته ياأستاذة".. لم يكن المنع بأمر البشر وحدهم بل كانت الطبيعة هي الأخرى تزيد من معاناتهم.

في فصل الشتاء تحدث الكثير من النواة بالبحر والتي تجعل الرياح شديدة بل عنيفة قد تصل إلى تحطيمها للمراكب التي يعد اغلبها هزيلة ضعيفة، وفقد الكثير من أهل القرية فلذات أكبادهم نتيجة لها، لذا فلا يخاطرون بالنزول للبحر أثناء النواة والتي لا يعرف لها مدة زمنية محددة، أما لو حدثت النوة وهناك صيادين بالبحر فلا نملك سوى الدعاء بالنجاة لهم " النوة ملك الموت لينا لو هلت واحنا في الماية يبقى عليه العوض".

"إحنا قربنا نأكل بعض" الصياد لم يواجه جميع تلك المشاكل فقط بل كانت هناك الكارثة الأكبر وهي سرقة المراكب الصغيرة، فضيق العيش والحياة دفعت بعض الشباب الذين لا يتسطيعون جلب قوت يومهم أن يحصلوا عليه عن طريق السرقة، وتزداد تلك العملية أثناء المنع ووقوف المراكب في الميناء دون رقيب.

كان الحديث طويلًا بدا على العجوز الإرهاق والتعب خاصة وأنّه تذكر معاناة يعيش بها منذ أعوام، لكنّه وقبل أن ننهي حديثنا معه قال" نفسي المسؤولين يبصوا على الصياد بنظرة عطف إحنا بنموت كل يوم وممكن نطلع الطلعه ونرجع إيدينا فاضية إحنا قربنا نأكل بعض لو مموتناش في البحر بنموت على البر".

الصيادين

سنيورة.. أم سرق الريح الابن من أحضانها

ملابس سوداء وعينان يبدو أنّهم انتهوا للتو من البكاء، كانت تلتفت يمينًا ويسارًا بالحجرة وكأنّها تنتظر أحد، شخص فور ذكر اسمه يبدو على ملامحها علامات الشوق، ترتسم ابتسامة خفيفة على شفتيها ثواني معدودة حتى تساقطت الدموع من عينيها.

سنيورة شعبان تجاوزت الـ65 من عمري، هذا العمر الذي توقف عند تلك اللحظة وهذا اليوم الذي لايمكن نسيانه المكالمة الآخيرة التي تعيش على ذكراها حتى اليوم، سبع سنوات مروا على الفراق وما زالت تنتظر يوميًا أن يأتي ليطرق باب المنزل ويخبرها بعودته، آخر حديثه معها "أنا بموت ياأمي الحقيني".

بدأت سنيورة تسرد تفاصيل رحلة موت ابنها "علي" الشاب العشريني" ابنى كان صياد عنده 22 سنة، حاصل "على" مؤهل متوسط، خرج للعمل في البحر مثل أشقائه، فمهنة الصيد توارثناها جميعا عن أبائنا وأجدادنا، لم يكن الحال ميسرا لكننا كنا نعيش مستورين، فأبنائي الثلاثة يعملون كصيادين من الممكن أن يحصل كلّا منهم على 10 جنيهات كقوت يومه يعود به لأبنائه، "علي" كان أصغرهم وأكثرهم سعيا ومشقة في العمل.

تساقطت الدموع من جديد من عين الأم وكأنّها تذكرت فلذة كبدها الصغير الذي لم تهنأ به فاختطفه الموت غدرًا دون سابق إنذار صمتت ثواني واستكملت الحديث عن الصغير امتزجت دموعها بابتسامة خفيفة كلما ذكرت اسمه " كان علي يعمل وهو صغير عمل في الكثير من المهن الشاقة، فتارة كان ينزل مع أشقائه الكبار للبحر وأخرى كان يذهب لنقل مواد البناء، بالرغم من كونه أصغر أبنائي إلّا أنّه كان أكثرهم تحملا للمسؤولية، منذ أن وطأت قدمه المركب الصغير للذهاب في رحلة صيد أشعر وكأنّه لن يعود إلي مجددًا رعاية الله كانت تحفظه دوما".

بدأت دموع الأم تنهمر بغزارة وضعف حديثها وأصبح خروج الكلام صعبا من فمها عرضنا عليها إنهاء الحديث لكنّها أصرت على استكماله وكأنّها كانت تنتظر هذا الحوار" في اليوم الذي خرج علي فيه للصيد كان هناك شيئ ما يخبرني أنّه لن يعود، استيقظت معه مبكرا وطلبت منه عدم الذهاب لانّ البحر اليوم نواته مرتفعه ورياحه شديدة والمركب لن تتحملها، لكنّه أصرّ على الخروج وأخبرني أنّها ستكون الرحلة الآخيرة له خاصة وأنّه من الممكن أن يبحث عن عمل آخر فلم تعد مهنة الصيد تؤتي بثمارها، وهو شاب لديه الكثير من المسؤوليات خاصة وأنّه كان مرتبطًا بإحدى فتيات قريته".

"اقترب آذان الفجر فودعني صغيري نظرت إليه وكأنّها نظرة الوداع، كانت هناك غصة في قلبي لم أفهم معناها إلاّ بعد، صلى آذان الفجر في أحد المساجد القريبة من شاطئ البحر، وخرج برفقة 9 من زملائه على المركب يشقون طريقهم للبحث عن رزقهم، لم ينال النوم مني تلك الليلة صليت الفجر وظللت أدعوا المولى أن يحفظ صغيري ومن معه وهم في وسط بحر مظلم".

الصيادين

واستمرت الأم في حديثها" كانت المركب متهالكة خرج عليها 10 من شباب البلدة ماتوا جميعًا، في المساء فوجئت باتصال هاتفي من "علي"، ليخبرني أنّ نواة البحر اشتدت عليهم والرياح الشديدة دمرت المركب، وطلب مني الاتصال بقوات الإنقاذ، لم أنتظر فخرجت مسرعة من المنزل فوجئت بأنّ جميع من بالمركب اتصلوا بذويهم يطلبون النجدة، وقف أهل البلد جميعا على الشاطئ وذهب رجالنا يطلبون قوات الإنقاذ والتي أخبرتهم أنّ الرياح شديدة والنوة قوية ولن تستطيع الخروج".

"عاد الرجال وفي عيونهم الحزن والقهر فلن نستطيع إنقاذ أبنائنا وقفنا على الشاطئ لا نملك سوى الدعاء لهم، بعد دقائق رن هاتفي من جديد فإذا بصغيري "علي" يخبرني أنّ النهاية أوشكت لم أتحدث بكلمة فأخبرني وهو يبكي" طول عمري ياأمي كان نفسي أموت شهيد خلاص أنا هموت دلوقتي بس ليه محدش جه ينقذنا ليه ادعيلي ومتنسنيش أنا بحبك أوي يا أمي إوعي تزعلي مني"، وفجأة انقطع الاتصال أدركت حينها أنّ البحر قد خطف صغيري ولن يعود مجددا".

"يومان ننتظر على شاطئ البحر خرجت مراكب الصيد وفرق الإنقاذ من أبو قير إلى البحر للبحث عن الجثث، لكن لم يستطيعو العثور سوى على شخصين فقط أخبرهم ذويهم أن يحتموا بـ"ورق الفل" هذا الشيئ الذي يطفو على المياه، بالرغم من إدراكهم أنّهم موتى لا محالة لكنّ جثامينهم سيتم العثور عليها، غرق المركب وعليه 10 شباب عادت جثث اثنين منهم وظل الباقي في البحر حتى اليوم".

الصيادين

أماني.. زوجة فقدت السند في نوة البحر وتعيش على ذكريات الـ6 سنوات

بالقرب من الشاطئ جلست فتاة لم تتخطى السادسة والعشرين من عمرها صغيرة لكن يبدو أن الحزن نال منها الكثير، جسد ضعيف مرهق عينان لم تأخذ نصيبا كبيرًا من الدنيا، كان اسمها أماني لكن حياتها كانت بعيدة كل البعد عن اسمها، أماني الفتاة العشرينة والأم لطفلتين صغار تزوجت منذ عدة سنوات من أحد أبناء قريتها، وهي لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها، لكنّها كانت جميلة مما دفع والديها أن يوافقا على زواجها مبكرًا.

الفتاة هي الأخرى كانت صغيرة لم تدري ما يحمله لها المستقبل، تزوجت أماني عاشت شهورًا مع رفيق دربها والذي كان يعمل هو الآخر صياد كعادة أبناء بلدته الصغيرة، كانت تواجهه الكثير من المخاطر لكنّه كان يعود سالمًا إليها، فهؤلاء أقرب وصفا من رجال الشرطة الذين يخرجون من منولهم لا يدرون هل سيعودون أم لا، هكذا كان حال مئات بل آلاف الصيادين الذين لا مصدر لهم سوى البحر، يلجؤون إليه فإما أن يخرجو منه سالمين أو تبتلعهم المياه.

تزوجت أماني صغيرة ولم تقضي سوى 6 سنوات برفقة زوجها أنجبت منه ملك وحبيبة فتاة في الصف الرابع الإبتدائي والأخرى في الصف الأول، خرج زوجها كعادته للصيد لكن تلك المرة خرج بلا عودة، استقل مركبه برفقة عدد من أبناء قريته للبحث عن رزقهم وسط البحر، لكن الرياح اشتدت عليهم ولأنّ مراكب الصيد في أبو قير معظمها متهالكة لا تقوى على صد الرياح الشديدة، فتحطمت على الفور وغرق زوج أماني ومن كان معه على المركب وحتى الآن لم تعثر الفتاة على رفيق دربها.

كان عمرها 22 عاما عندما رحل الزوج تحملت الفتاة المسؤولية حينها، حاولت الخروج للعمل لكي تستطيع أن تربي بناتها الصغار، فالـ400 جنيها التي تحصل عليهم كمعاش من التضامن لن يفعلا شيئا في ظل تلك الظروف، لكنّ أماني وجدت في طريقها حجر عثرة منع خروجها من المنزل بدعوى "معندناش ستات بتشتغل تقعدي تربي عيالك"، فوالد زوجها منعها من الخروج للعمل تحت مسمى أنّ العار سيلحق بالعائلة.

"هتقعدي معايا ولما بناتك تتجوز هتروحي عند أمك تاني" لم يكتفى والد الزوج من إجبار أرملة ابنه عن الجلوس في المنزل دون مساعدتها في أية أمور مادية، بل يحاول أيضًا إجبارها على الذهاب للعيش معه في منزله ومغادرة شقتها، بشرط أنّه عندما تتزوج بناتها سيتم طردها من المنزل والعودة لبيت أمها وكأنّها خادمة تم شرائها لتربية أحفاده.

أماني لم تطلب شيئًا سوى أن تسد احتياجات بناتها، فزوجها راح غدرا في وسط البحر أثناء بحثه عن رزقهم، رحل منذ سنوات وما زالت الفتاة العشرينية تعاني ولا تدري ما ذا سيكون مستقبل بناتها الصغيرات وهم لا يملكون شيئا من الدنيا رحل السند والرزق ضعيف.

الصيادين

يسري.. 30 عامًا انتهت بالعجز دون عائل للأسرة

سار بعكازه على قدم واحدة يجرها في الرمال يواجه صعوبة الوصول للشاطئ، لكنّه يحاول بكل ما أوتي من قوة، كلما اقترب من المياه تلمع عيناه، وقف على الرمال دقائق معدودة شاردا في البحر، يحاول أن يعود بذكرياته، أمس كان هناك في الداخل يشد الرحال برفقة أصدقائه، واليوم هو فقط يكتفي بمشاهدتهم وهم يرحلون يلوح لهم بيده من على الشاطي يظل ينظر إليهم حتى يختفوا في المياه، هنا في هذا المكان فقد قدمه وأصبح يسير على واحدة فقط.

لحية طويلة وشعر كثيف وملامح وجه تعطي صاحبها السبعين، قدم واحدة وعكاز بجانبها يعوضه عن الأخرى، هنا على شاطئ أبو قير جلس عمي يسري، صياد يسكن في البلدة، فور رؤيتك له تعتقد أنّه السبعين من عمره، ملامحه وكثافة لحيته وشعره وجسده الهزيل خير دليل على ذلك، لكن عمي يسري لم يتجاوز الـ48 من عمره، جار الزمن عليه حتى كاد أن يقضي على ماتبقى منه.

"حياتي كلها في البحر لغاية لما عجزني".. يسري إبراهيم أحد ابناء مدينة أبو قير يعمل صيادًا منذ حوالي 30 عامًا، كان عمره حينها خمسة عشر، لم يكن اختيار مهنة الصيد لدى عم يسري اختياريا بل أجبرته الظروف عليه، كان في الخامسة عشر فتى مجتهدا متفوقا في مدرسته يريد أن يقدم في الأكاديمية البحرية حتى يصبح ضابطا، فجأة وعلى حين غفلة مرض والده وأصبح قعيد المنزل ولأنّ يسري كان الشقيق الأكبر فعرض على والده أن يترك التعليم وأن يذهب لتعلم مهنة الصيد.

في البداية رفض والده وأصر على أن يستكمل ابنه تعليمه، بالإضافة إلى المخاطر التي يدركها جيدا تحاط بتلك المهنة، لكنّ يسري أصرّ على قراره، وترك مدرسته وبدأ يستعد للنزول في أول رحلة صيد للبحر، "مكنتش أعرف إن أول مرة هتبقى صعبة كده"، حمل يسري الغزل الخاص به وصعد أعلى المركب التي كانت تحمل على متنها عدد من أبناء قريته وذهب للبحث عن قوت يومه، لكنّه لم يعلم أنّ المهنة شاقة بتلك الدرجة الكبرى فعاد في اليوم الأول مجهدا مريضًا فكر في عدم الذهاب مرة ثانية.

الصيادين

في الأيام الأولى التي بدأ بها يسري واجه الكثير من المشاكل والصعوبات، لكنّه بعد فترة بعينها بدأ يتأقلم على الوضع، وظل لسنوات حتى استطاع أن تجهيز نفسه والزواج من إحدى فتيات مدينة، وأنجب منها 3 فتيات أكبرهم طالبة بكلية رياض الأطفال جامعة الإسكندرية والوسطة في الصف الثالث الإعدادي والصغرى في الصف الثالث الإبتدائي.

"كانو بيقولولنا زمان البحر غدار بس اللي اكتشفناه إن البشر والطبيعة هما اللي غدارين".. يسري قضى أكثر من نصف عمره في البحر، عانى كثيرًا معتقدا أنّه سيجد الراحة فيما بعد لكنّه يعاني إلى الآن، تعرّض للموت عدة مرات لكنّ تلك الحوادث لم تمنعه من استكمال طريقه في وسط البحار، حتى جاءت الرياح بما لاتشتهي السفن تلك المرة وأجبر على الجلوس في منزله.

قديمًا بحسب حديث الصياد الأربعيني لم يكن هناك مشقة في الصيد بالرغم من أنّ مخاطره كان أكبر بكثير من اليوم، قبل سنوات لم يكن هناك الوسائل التي تمكن الصياد من معرفة موعد نواة البحر، فكان الصيادون يخرجون لا يدرون هل سيعودو أم يدركهم الموت في وسط البحر، لكن اليوم بات الوضع أخف بعض الشيئ، لكن ما زالت الخطورة متواجدة بشكل كبير.

في إحدى الرحلات كان الطقس متقلبا وعلى حين غفلة حدة نوه شديد، جعلت أمواج البحر تتقلب وكأنها أشبه بعمارة تتساقط، فتيقن جميع من على المركب حينها أنّ الموت آت لا محالة، قام يسري ورفاقه بمحاولة الاستغاثه إلّا أنّ الوقت لم يسمح لهم فربط يسري نفسه في المركب وكلّا من رفاقه بدأ بالبحث عن طريقة للنجاة، وبعد ساعات وهم يطفون على المياه بعد غرق المركب دفعتهم المياه لميناء الدخيلة وكأنّ رحمة المولى أدركتهم وأنقذتهم.

مر اليوم بسلام، وبالرغم من ذلك لم يفكر في ترك مهنة الصيد مطلقا وظلّ بها حتى أصيب بمرض السكر، حتى مع تحذير الأطباء له بأنّه يجب عليه أن يواظب على العلاج إلّا أنّ مهنته الشاقة كانت تمنعه من ذلك، وتدهورت حالته فأصيب بـ"غرغرينة" في قدمه اضطر الأطباء لبترها، فقط لأنّ علاجه كان حقن أنسولين ولأنّه كان من الممكن أن يظل في البحر عدة أيام لم يكن يجد من يعطيها له.

بعدما تمّ بتر رجل الصياد الأربعيني لم يكن حزنه بسبب فقدان رجله هو الأكثر بل عدم نزوله البحر مرة أخرى كان أشد قسوة، فعرض عليه أحدهم أن يلجأ للرجل الصناعية والتي يستطيع التحرك من خلالها بسهولة والنزول للمياه بشكل طبيعي، وبالفعل سمع تلك النصيحة لكنّ القدر شاء أن تكون نهاية يسري في الصيد فالرجل التي فعلها منعته من الاقتراب للمياه نهائيا وحذره الأطباء من المخاطرة.

الصيادين

"قالولي لما تركب الرجل الصناعي ناس كتير عملوا أجهزة ورجلها زيي وبتمشي، لكن لما عملت اكتشفت ان الجهاز صعب وتقيل مبعرفش أمشي بيه، كنت حاطط عليه أمل قالولي الجهاز مينفعش تنزل المايه علشان هو على مواسير ومسامير ولو نزلت مش هينفع تاني"، وظل يسري على هذا الحال منذ أكثر من عام يكتفي فقط بالنظر للمياه من بعيد دون حتى أن يقترب منها.

في النهاية قضت مهنة شاقة على حياة يسري، بالرغم من عشقه لها إلّا أنّه ردد"ياريتني سمعت كلام أبويا زمان ولو عندي ولد عمري مكنت هرميه في البحر إحنا شوفنا الغلب ولسه بنشوفه وياريت ولادنا لما بنموت أو بنعجز بيلاقوا لقمة ياكلوها، اللي بيشتغل صياد بيكبر قبل آوانه بس ملناش رزق غير البحر".

الصيادين

اقرأ أيضا