«أخبار.. أهرام.. جمهورية».. كلمات نُقشت فى القلوب وعلقت فى الأذهان، يتغنى بها رجلًا على مدار عقود، فى مكانٍ واحد لم يتغير، حتى أصبح علمًا يقصده المثقفون من شتى المناطق كل حين وآخر، لم يهدأ باله ولم يغفل جفنه حتى أورث عائلته المكونة من 6 أفراد هذه المهنة الشريفة التى تجمع بين العلم والمال.
ما بين طريقين أحدهما للدخول والآخر للعودة، يقف رجل فى الخمسين من عمره، بصحبة نجليه، فى العشرينيات من عمرهما، على نصية شارع، فى كشكهم الصغير الذى يفترشون أمامه الصحف، أحدهما يتصفح والآخر يبيع، ومن حولهم باقى العائلة أحدهم ينقل البضائع والآخر ينظمها.
كاميرا "بلدنا اليوم" رصدت هذا المشهد من أمام محطة مترو روض الفرج، فتارة تركز على هذا الكشك الصغير والجرائد المبعثرة، وتارة تركز على الرجل الكبير الذى "بلغ من الكبر عتيا"، ويجلس على مقربة من الكشك يتذكر أيام الصبا، وينظر كل حين فى الصحيفة التى يقرأ فيها الأخبار.
منتصر: بعشق الصحافة ومهما خسرت مش هسيبها
منتصر فتحى البالغ من العمر 53 عامًا، يعمل منذ صغره فى هذا الكشك الصغير، اتخذ منه مهنة أساسية يمارسها هو وأشقائه الـ6 وأفراد عائلتهم طوال العمر، وأصبح مصدرًا أساسيًا لمعيشتهم، لم يكل أحدهم أو يمل، بل اجتمعوا كلهم على تحقيق أمنية الوالد فى استمرار العمل بذلك الكشك الذى تخطى عمره الـ70 عامًا فى نفس المكان بمنطقة روض الفرج.
بنظرات راضية وابتسامات ممتلئة بالنقاء، بدأ فتحى حديثه، قائلًا: "الكشك تم إنشاؤه حينما كانت الصحافة المصرية مقتصرة على الأهرام والأخبار فقط ولا يوجد غيرهما على الساحة، فكان اسمه فى البداية "عالم الثقافة"، وذلك قبل ظهور جرائد المعارضة وغيرها، ولكن مع التطورات التى طرأت على مصر فى الآونة الأخيرة وظهور المواقع الإلكترونية وعالم التكنولوجيا، تم تغيير الاسم إلى عالم الصحافة، وذلك ليتذكر الجميع كلمة "الجرنال والصحافة الورقية" التى أصبحت على وشك الانهيار فى السنوات الحالية.
وقال الرجل الخمسينى،: إنه "فى الستينيات كان للصحافة دور هام فى المجتمع المصرى، ومكانة عالية، فكانت بمثابة سلطة رابعة للعاملين بها حقوق فى شتى المؤسسات وكل واحدٍ يحمل على عاتقه كلمة صحفى، كانوا يعاملون معاملة راقية من الجميع، ولكن فى السنوات الأخيرة أصبح الصحفى كأى شخص عادى من عامة الناس؛ وذلك بسبب دخول العديد من المؤهلات فى مجال الصحافة، ما تسبب فى ضعف إمكانات بعض الصحفيين الذين يمثلون خطرًا على البقية المميزين.
وراثة عن الوالد.. وتعودنا عليها
"مبقاش فيها مكسب ولكن الشغلانة وراثة عن الوالد وتعودنا عليها".. كلمات عبَّر بها فتحى، الذى يعول 4 من الأولاد جميعهم فى مراحل تعليمية مختلفة، ويسعى جاهدًا فى عمله ليوفر لهم حياة كريمة ليكملوا تعليمهم مثل بقية الشباب.
مضيفًا: فى البداية كانت الحياة يسيرة؛ بسبب انخفاض الأسعار وعدم وجود أطفال، فكانت المكاسب معادلة للحياة التى نعيشها، ولكن حاليًا لدى 4 أولاد وأخوتى الـ6 لديهم أطفال فى مراحل مختلفة من التعليم، ولم يعد "الكشك" يكفى المصاريف العائلية، وهذا من الأسباب التى دفعتنا إلى بيع "البسكويت والشيبسى والكانز" وغيرها من الأشياء الخفيفة التى تساند بعض الشىء مع المكاسب القليلة التى تخرج من "الكشك".
بعينان شاردتان وبصمت هادئ، يقول فتحى: "كل 100 جرنال ببيعه؛ بكسب 40 جنيها، فى المقابل أسرة مكونة من 6 أفراد، كل واحد منهم عنده ما يقارب 3 أطفال، والكشك فيه أكتر من 10 عمال شغالين؛ لأن مالهوش أبواب، وفاتح 24 ساعة".
لم يوجد أمام فتحى وأسرته سوى بيع السلع الصغيرة لتجميع مكاسب توفر حياة مستقرة للأسرة بأكملها، متابعا أن من بين أفراد العائلة الذين يعملون بالكشك، أخى الصغير "محامى" الذى لم يجد عملًا؛ لذلك يعمل هنا خلال الفترة الصباحية، وأولادنا فى الجامعات يخرجون من محاضراتهم إلى هنا مباشرةً لممارسة العمل، ولكن مهما دخلت منتجات أبيعها؛ لن أتخلى عن الصحافة ولو بلغت خسائرها الضعف.
ووفقا لحديث عم فتحى: "على الرغم من أن كشك عالم الصحافة بين أكبر 3 موزعين معتمدين للأهرام والأخبار والجمهورية؛ إلا أن هذا لم يفدنا بشىء، فكل حين وآخر يهجم رجال البلدية على المشروع الصغير ويقلبون حاله رأسًا على عقب"، فالسنوات الطويلة التى قضاها هؤلاء فى الكشك الصغير على ناصية شارع البيومى لم تكن شافعة لهم من رجال الأمن الذين يشنون حملاتهم على هذه المنطقة".
وأكد فتحى: "حاولنا نوصل لحد من رؤساء التحرير من الجرائد اللى بنوزع لها معرفناش ومحدش بيساعدنا فى موضوع البلدية ده، ومحدش رضى يدينا تصريح معتمد من الجريدة".
وتابع فتحى، أنهم طالبوا من والدهم أن يتركوا عمل الصحافة والجرائد؛ بسبب المكاسب القليلة التى تأتى من ورائها، ولكنه قابلهم بالرفض مرارًا وتكرارًا، وطالبهم "فى وصيته" بأن يستمروا فى بيع الجرائد حتى النهاية، وهذا ما يريده "فتحى" وأشقاؤه الـ6، أن تحميهم المؤسسات التابعة لهم من بطش البلدية التى تقلب حياتهم جحيمًا كل أشهر قليلة.
محمد: «اتربيت فيه.. وهو مصدر رزقنا»
محمد فتحى فى العشرين من عمره، طالب، يأتى يوميًا فى الخامسة مساءً إلى "الكشك" ليظل بقية يومه فى هذا العمل المتواصل، تعود منذ صغره على العمل برفقة والده، حتى أصبح من الأشياء الأساسية التى يفعلها بشكل ثابت على مدار السنوات الماضية، ورغم ذلك يواصل دراسته بجدية وإخلاص.
يقول محمد "اتربيت فى المكان الصغير ده مع أبى وأعمامى، والعديد من الأصدقاء الذين يمرون بضائقة مالية"، مؤكدًا أن هذا الكشك كان فى البداية يبيع الجرائد فقط، ولكن فى السنوات الماضية أصبح المكسب ضئيلا بسبب المواقع الإلكترونية، وهذا ما دفعنا لشراء بعض الحلويات والبضائع الأخرى التى تساند فى الدخل للعائلة، ولكن مهما مرت الصحافة بتدهور لن نتركها لأننا تعودنا عليها، وهى أيضًا من وصايا جدى أن يستمر الجميع فى العمل فيها".
وتابع محمد الفقى، أنه رغم السنوات الكثيرة التى ظل فيها الكشك فى هذا المكان بروض الفرج، لم تتركه البلدية والحملات التى يشنها رجال المباحث على المنطقة، فكل حين وآخر يقلبون رأسه على عقب، ويدمرون مصدر رزق 6 أفراد بعائلاتهم، وغير ذلك فالكشك به تراخيص من الحكومة، ورغم هذه التصاريح، والجهات الصحفية المعتمدة التى يوزع الكشك الصغير طبعاتها؛ لن يسقط من قائمة استهداف الحملات التى تزيل العوائق المرورية.