30 عامًا من المعاناة والشك والنفي والإثبات عاشها باحثًا عن الله، وانتهي فيها إلي اليقين والإيمان المتحقق والتدبر والبحث عن ماهية الأشياء وجوهرها، فهو محبًا منذ بدايتة للقراءة، فعتكف على الكتب لساعات طويلة، وقرأ عن البوذية والإبراهيمية والزرداشتية، ليس فقط ذلك وأنما مارس وتصوف الهندوس القائم عن وحدة الوجود.
«كن كما أنت وستهديك نفسك إلى الصراط».. كلمات رسخها الدكتور الراحل مصطفى محمود، في عقول وأفئدة أجيال متعاقبة من قرائه وأثرت في حياتهم، واتخذوها منهجًا يسيرون عليه في دروب الحياة وعتمتها.
بداية المشرحجي
ولد الكاتب الراحل مصطفى محمود، 27 ديسمبر 1921، فهو من الأشراف وينتهي نسبه إلى الإمام علي زين العابدين، فبدأ حياته متفوقا في الدراسة، حتى ضربه مدرس اللغة العربية؛ فغضب وانقطع عن الدراسة مدة ثلاث سنوات إلى أن انتقل هذا المدرس إلى مدرسة أخرى فعاد لمتابعة الدراسة، وفي منزل والده أنشأ معملا صغيرا يصنع فيه المبيدات الحشرية ليقتل بها الحشرات، ثم يقوم بتشريحها، وحين التحق بكلية الطب اشتُهر بـ"المشرحجي"، نظرًا لوقوفه طوال اليوم أمام أجساد الموتى، طارحًا التساؤلات حول سر الحياة والموت وما بعدهما.
رحلة الأبداع
كتاباته وإنجازاته كانت سببًا أساسيًا وراء فكرة تحويل حياته إلى عمل درامى يتابعه الجمهور، وبالرغم من تفوقه في الدراسة إلا أنه أزداد حب الطبيب الفيلسوف للقرءاه والكتابه والعمل الادبي، فقرر أن يتفرغ للكتابة والبحث عام 1960، حيث تقدم ما يقرب من 400 حلقة من برنامجه الشهير "العلم والإيمان" وإصدار ما يقرب من ثمانين كتابا، إلا أن هناك جانب فني وأدبي في شخصيته ربمالا يعلمها كثيرون، إذ كتب العديد من الأشكال الأدبية ما بين الرواية والمسرح والقصص القصيرة.
وقدم عددا من أعماله الأدبية في أفلام سينمائية وإذاعية وتليفزيونية، على سبيل المثال قصة شلة الأنس والتي صدرت عام 1962 ، فتتحدث عن شخصيات واقعية شعبية، والعنكبوت التي تعتبر من أشهر روايات فهي تميل إلي الفلسفة حيث أنها لا تخلوا من لمسة خيال علمي، وتطرح الأسئلة عن مصير الروح وارتباطها بالإنسان وماذا يحدث بعد الموت.
لم يتوقف إبداع مصطفي محمود الفني عند تلك الأعمال فقط، ففي عام 1960 ، اصدر رواية المستحيل وهي تحكي عن مهندس شاب يكتشف فجأة أن حياته مزيفة وكل شيء بها مفروض عليه وأنه لم يختار شيئا بداية من زوجته ربة المنزل التي لا تهتم سوى بالبيت والأولاد إلى لوحة الموناليزا التي تغطي جدار منزله والتي أقنعه والده بمدى جمالها.
أما عن عام 1968، فقد كتب الحوار الخاص بفيلم "نار الحب" من بطولة سعاد حسني وحسن يوسف، وفي عام 1965 تم تقديم فيلم "العنب المر" من بطولة أحمد مظهر ولبنى عبد العزيز، وتم تقديم الكثير من أعماله الأدبية في السينما والتليفزيون والإذاعة والمسرح.
تقديمه للمحاكمة
وبالرغم من موهبته الفنية والأدبية الواضحة بجدارة لكل العاملين بالوسط الفني، إلا انها كانت السبب الرئيسي فى محاكمته بسبب كتابه (الله والإنسان)، حيث طلب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بنفسه تقديمه للمحاكمة بناء على طلب الأزهر الشريف باعتبارها قضية كفر إلا أن المحكمة اكتفت بمصادرة الكتاب.
رفضه للوزارة
وعلى قدر الخلاف مع الرئيس جمال عبد الناصر كان الوفاق كبيرًا مع الرئيس أنور السادات الذى قربه له بشكل كبير حتى عرض عليه الوزارة ذات مرة لإعجابه بتفكيره، إلا أن مصطفى محمود رد عليه بجملة ما زالت تتردد إلى الآن حين قال: "لقد فشلت فى إدارة أصغر مؤسسة وهى الأسرة، لأنى مُطلق فكيف لى بإدارة وزارة كاملة".
كما كان صديقا شخصيا للرئيس السادات، وبالرغم من رفض للوزارة إلا أنه ظل على مقربة كبيرة منه طوال فترة حياته، معترفاً له بالفضل فى أمور عديدة أنجزها لاستعادة حيوية الدولة المصرية وإفاقتها من نكستها، ولذلك عندما تم اغتيال السادات فحزن عليه حزبنًا شديدًا كما لم يحزن على أحد مثلما حزن عليه حيث يقول "كيف لمسلمين أن يقتلوا رجلا رد مظالم كثيرة وأتى بالنصر وساعد الجماعات الإسلامية ومع ذلك قتلوه بأيديهم".
اضْطِهاد مبارك
أما عن علاقتة بالرئيس الأسبق حسنى مبارك، فلم تصل إلى حد تقديمه للمحاكمة، بناء على طلبه مثلما حصل مع ناصر، أو عرض وزارة كما حدث مع السادات، وإنما كانت فى البداية عادية شأنها شأن علاقة المثقفين برئيس دولة التى لم تكن تصل لصداقة كسابقه، فقدم برنامجه الشهير في التليفزيون المصري، حتى جاءت اللحظة التى صدرت الأوامر من قبل "مبارك" بوقف البرنامج فجأة رغم جماهيريته الواسعة.
لم يأتي الأمر إلي حد ذلك وأنما أصدر مبارك يضًا قرارًا بحظر نشر مقالات الكاتب الراحل فى الجريدة الأهرام، مبررين أنها معادية للكيان الصهيوني، واستمرت المعاده بين الرئيس وبين الفيلسوف، حتي وصل الأمر إلى منعه من تسليم نوط الامتياز من الرئاسة، بحجه أن الرئيس ليس لدية الوقت الكافي له.