”والله زمان يامدّاحين”.. أهل العشق على أبواب ”سومة” و”التهامي”

الثلاثاء 20 نوفمبر 2018 | 02:48 مساءً
كتب : سارة أبوشادي

"عظمة على عظمة ياست، مدد ياشيخنا مدد" صمت رهيب يعم المكان سوى صوت الأناشيد، أنغام تنشد بإسم الله ونبيه وآل بيته، على الجانب الآخر العشرات يجلسن لا يملون منها يريدونها أن تستمر علت الأصوات مدحًا في صوتها، الاثنان اجتمعا في صورة واحدة اختلف زمانهم وطريقتهم، فهو شيخ المنشدين وهي كوكب الشرق، لكنّهم اجتمعوا على حشد المحبين والعشاق.

 

"ياسين التهامي، أم كلثوم" وجهان لعملة واحدة فالأول شيخ ومنشد ومدّاح والثانيه أسطورة الغناء في المحروسة بل بالوطن العربي بأكمله، كوكب الشرق، الشيخ والمطربة جامعي المحبين بالمحروسة، الاثنان التفّ حولهم الملايين لسماء عذب صوتهما، هي مدحت النبي في مولده بنهج البردة وسلو قلبي وولد الهدى، وهو طغت ذكراه ومدحه على معظم قصائدة.

في هذا التقرير نسير في رحلة صغيرة نكشف خلالها كيف جمع الشيخ والمطربة محبي المحروسة حولهم بذكر النبي:

 

حرب الست

لقد كنت في عمر صغير حينما أخبرني أبي أنّ ليلة الخميس، كانت مميزة بالنسبة لهم، تلك الليلة التي يتجمعون بها حول الراديو منتظرين إطلالة الست، تشدوا إليهم بأغانيها وتطربهم بعذب ألحانها، كانت الشوارع تخلوا من المارة والمحلات بعضها إمّا مغلق والآخر يمكثون بالداخل أيضا يلتفون حول هذا الجهاز الصغير، ولم يكن يستمعون فقط بل كان بعضهم يحمل بيده ورقة صغيرة يسطر فيها أغاني الست حتى يستطيع حفظها وإنشادها بين الحين والآخر.

الست لم تجمع المحبين فقط على أغاني العشاق، بل جمعتهم أيضّا على قصائد المحبوب لم تختلف كثيرّا عن التهامي هنا، رحلت وتركت موروثها من نهج البردة، رددّها التهامي بعدها بسنوات، حافظت هي في البداية على هذا الموروث ورفضت اقتطاعه ولم تنصاع لأوامر السلطة والقوة.

 

"الله فوق الخلق فيها وحده *** والناس تحت لوائها أكفاء" مرّ وقت طويل مايقرب من الساعة، الجميع في انتظار شغف علا وجوه الحضور بالصالة، أين ذهبت الست؟، سؤالّا تبادر في أذهان الجالسين، منذ قليل كانت تتغنى وتمدح النبي بقصيدة نهج البردة، فأوقفها شخصية مجهولة اتكشفوا فيما بعد أنّها من قبل الملك فاروق، يعترض فيها على أحد أبيات القصيدة وتحديدا"والدين يسر والخلافة بيعة *** والأمر شورى والحقوق قضاء، الاشتراكيون أنت إمامهم *** لولا دعاوي القوم والغلواء، داويت متئدا وداووا ظفرة *** وأخف من بعض الدواء الدا، الحرب في حق لديك شريعة *** ومن السموم الناقعات دواء".

وهددت سيدة الغناء العربي بإلغاء التسجيل في حالة إذا ما أصر القصر على التدخل، وتوقف التسجيل وقتها نحو ساعة،  أجرت خلالها أم كلثوم اتصالاتها بالقصر، وأعلنت إصرارها على غناء البيت فما كان من القصر، إلا أن رضخ لرأي أم كلثوم وأُعيد التسجيل كما هو دون حذف، وأصبحت نهج البردة تترددّ في شوارع المحروسة وبميادينها في الاحتفالات، وابتهلها من خلفها المدّاحون والمنشدون.

التهامي شيخ المدّاحين

الصورة الثانية لم تختلف كثيرّا عن سابقتها، حضر الشيخ التفّ عليه الزوار من كل جانب، البعض يحاول مصافحته، وآخرون يحاولون تقبيل يديه، صعد مسرعّا إلى المسرح فهناك الآلاف يريدون فقط إلقاء التحية هللّ محبيه ومريديه بدأ ينشد ويمدح في المصطفى ارتفعت الأصوات وتعالت الصيحات، الجميع يدد ما يقوله الشيخ، صرح عظيم يأتي إليه من كل أرجاء المحروسة .

"تجلى لي المحبوب" إنشاد ومدح ألقاه الشيخ ياسين التهامي، كغيره من مئات الكلمات التي تغنّى بها ملايين الصوفيون في مصر والوطن العربي، فالإنشاد الديني دولة وسلطنة، والمنشد الصوفي ياسين التهامي هو أحد أشهر أركان هذه الدولة التي تمتد باتساع العالم العربي والإسلامي، فقبل التهامي كانت قصائد المتصوفة من خواص الخواص، مكانها بطون الكتب أو حلقات الذكر ومجالس شيوخ الطرق، فجاء ياسين بإنشاده في الموالد والميادين والحفلات ليجعله على ألسنة العوام في القرى والنجوع والأرياف.

 

بات الجميع يرددون هذه الكلمات وغيرها المقتطعة من عيون الشعر الصوفي كثيرا، حتى دون أن يدركوا معانيها غالبا بعفوية وبفصاحة لا تنم عنها بساطتهم ومستوياتهم الثقافية والاجتماعية المتواضعة، بل إن بعضهم يكاد يحفظ قصائد بأكملها لأقطاب المتصوفة يعجز عنها كبار المثقفين، وذلك من كثرة ما رددها وراء الشيخ ياسين في الموالد والحفلات، أو لكثرة ما سمعها من أشرطة الكاسيت التي تحتوي إنشاده الديني والتي تجاوزت المائة وخمسين.

وياسين التهامي رغم ارتجاله، ورغم أنه لم يحصل على دراسات أكاديمية أو علمية، فقد أنهى دراسته بالصف الثاني الثانوي الأزهري، يمكن اعتباره أفضل منشد عربي في علاقته مع الموسيقى وتوظيفه لها في الإنشاد؛ فهو يتعامل مع المقامات الموسيقية بحساسية نادرة، يتنقل فيها، ويزاوج بينها بمهارة لم يعرفها المنشدون الدينيون، وربما لا يوازيه في هذه الموهبة أحد، فهو آخر المداحين العظماء وأشهرهم .

عرضنا صورة مبسطة نموذجين مختلفين اجتمعا على صفة واحدة جمع المحبين والعشاق حولهم، مدحوا النبي فعاشت قصائدهم عشرات السنين تغنّى بها العامة والمثقفين، سومة والتهامة شخصيات مصرية لن تنساه الذاكرة رحلت سومة وبقى التهامي يطرب الأسماع بإنشاده.

 

اقرأ أيضا