التفاتة

الجمعة 22 نوفمبر 2024 | 04:48 صباحاً
عاطف صبيح الكاتب الصحفي
عاطف صبيح الكاتب الصحفي
كتب : عاطف صبيح

تَمهَّلْ أيها الفتى.. لا تعجل بالحكم على هذا المُسِنِّ الذي يرقبك بعينين متفحصتين؛ فما تدري المحطات التي مرَّ بها حتى اشتعل الرأس شيبًا وأنت لم تزل تحبو على دَرَج الحياة.. تتحسَّس مواضع قدميك قبل أن تخطو أولى خطواتك في خِضَمٍّ اجتازَه باقتدار، حتى رسا على الشاطئ "الآخر"، بينما تعبثُ أنامُلك بالرمال، ويستلُّ غضبَك موجةٌ نافرةٌ تُفتِّت قصرك الذي بنيتَه بشِقِّ الأنفُس؛ لتسحبه إلى الماء، وتتركَه ليمضغه الموجُ من كل مكان، ثم يبتلعه في جوفه.

أتدري مَنْ ذلك الجالس على مقربة منك مَحْنِيَّ الظهر يتلهَّى بمشاهدة هذا الجيل الذي قضى عمرَه يراهن عليه، فكانت أولَ معركة يخسرها؟

يتفحصك وأقرانَك بـ مِشْرَطِ الجرَّاح؛ ليرسو لكم على موطن الداء رُسُوَّه على شاطئ مُعترَك الحياة.

أتظنه عجوزًا؟ لا تُفاجَأْ إذا أخبرْتُك أنه أكثر شبابًا وتجدُّدَ طاقةٍ من جيلك.

عندما تكون الحقيقة صادمة، فهي مِشرَط الجرََّاح لاستئصال الورم.. صدمةٌ تتبعها إفاقة، أو إماتة.

تمر أمام عينيه طفولتُه في زمن الحرمان.. عندما كانت مواقع التواصل الاجتماعي هي الشوارع بقوانينها.

مسكين هذا الجيل.. يعيش على امتداد رقعة الكرة الأرضية؛ ليحشر نفسه في قبو بحجم كفِّ يده.. يُطِلُّ من خلاله على العالم.. العالم الذي ظل يبهره ويسحبه سحب ليبتلعه، حتى آمن أنه الحقيقة، وأن ما حوله طيف خيال؛ لذا ترى جسدًا بجوارك لا وجود له.

انطلقَت من جوف المسن تنهيدةٌ مكبوتةٌ: «لو عاد الزمان بي، أكنتُ أُغيِّر اتجاهات عقارب الساعة، فلا أُريق عمرًا قد لا يحياه كثيرون؟».

بركان إحباط يكفي لإذابة الجبال الراسخات، ولكن هل تقدر براكين الكون أن تهزَّه؟! تجاربه في الحياة عتَّقت خبرته، وصقلت جبل عزيمته الرسوبي؛ لذا كان قراره النافذ بعد أن لاحظ الصبيُّ التفاتتَه إليه، فجاهد أن يأتي بأفضل ما فيه، ربما ليحصل على لايك أو كومنت بمنطق مواقع التواصل.

تَذكَّرَ عندما كانت التفاتة الكبار له وهو طفل أشدَّ تأثيرًا من جمهور يزحم الاستاد؛ ليهتف للاعبه المحبوب.

آخر شيء رغم أن الفتى لا يعرف أن المسن شيخ في البرمجة التي يقتات منها جيلُه، إلا أنه تَقارَبَ منه؛ ليحقق دون أقرانه أول تواصل اجتماعي حقيقي من سحر الـ "التفاتة".

«مسكين هذا الجيل.. ضحية جهلنا وتهميشنا».